التصّوف في رواية الشّحاذ لنجيب محفوظ

Maryam SABRA
Mardi 18 mai 2021
Organisateurs


الكتابة من العالم الماورائي وعنه, حلم الأديب المصري نجيب محفوظ (1911  – 2006)  الذي راوده منذ شبابه.  على الرّغم من دراسته للفلسفة, اتّجه نجيب محفوظ إلى الكتابة  وبقي وفيّاً لها على مدار أربعين سنة. تاه بين الوجوه والأماكن ليجسّدها حروفًا وكلمات    إلا إن علاقته بالفلسفة لم تتلاشى، فلقد اعترف فى حوار أجراه مع يوسف القعيد عام 2003 قائلًا: «أحببت بعض الفلاسفة حباً شديداً مثل ديكارت وكانط وشوبنهور وسارتر وألبير كامو." وهذا ما نلاحظه في "الثلاثية" المكوّنة من : ما بين القصرين (1956), قصر الشوق (1957), السكرية (1957). فعلى سبيل المثال، , تحمل  شخصيّة كمال عبد الجواد في أعماقها لمسة فلسفية « بين أبى العلاء والخيام، أو بين التقشف واللذة يداوي اعتلا نفسه ووحدته بها : "يلوذ من الوحشة بوحدة الوجود عند اسبينوزا أو يتعزى عن هوان شأنه بالمشاركة فى الانتصار على الرغبة مع شوبنهور أو يهون من إحساسه بتعاسة عائشة بجرعة من فلسفة ليبنتز فى تفسير الشر، أو يروي قلبه المتعطش إلى الحب من شاعرية برجسون، بيد أن جهاده المتواصل لم يجد فى تقليم مخالب الحيرة التي تبلغ حد العذاب." 

 

اتسمت أعمال محفوظ بالعمق الفلسفي, والديني, والاجتماعي، والسياسي، ولعلّ ما  يجمع كل ما سبق يتمثل  بالأزمة الوجودية التي تتغلغل  في أبطالها فإذ بها تلجأ لنسج خيوط صوفية بحثا عن الخلاص. وعلى  الرغم من تعدد تعريفاته واختلاف علماء اللغة في اشتقاقه , فلنعتبر أن التصوف, اصطلاحاً, هو أن تجمع  الإنسان بالله علاقة روحية.  وعن التصوف  كتب محفوظ في دفتر مذكراته: "ليس التصوف كثقافة أن تقرأ التصوف ولكن أن تقرأ كل شىء بروح المتصوف."  أما بالنسبة لدرجاته, نذكر أبرزها: التوبة (عن كل ما يبعد عن الله ومعانيه الأبدية), المجاهدة (أن تجاهد نوازع النفس التى تقعد بك عن العلم والفن والخير), العزلة (أن تعتزل الناس بالقدر اللازم لاستغلال قواك لخيرهم), التقوى (اتقاء ما يصد عن سبيل الله), الزهد ( عدم الاستغلال المضر بالناس، ولكنه لا يمنع من الاستمتاع البريء بتراث الحضارة و، وأنت مقدر لما هو اسمى منها), الصمت (أن تكلم الله كثيرا). 

تحاكي رواية الشحاذ محامٍ ناجح في مهنته ويتمتع  بشهرة واسعة. لم يقتصر نجاح هذا المحامي على إبداعه في  الشقّ المهني, بل لقّب أيضًا منذ انخراطه في دراسة الحقوق ب "الاشتراكي المتطرف, والمحامي الكبير, والشاعر". ثم تزوّج حبيبته بثينة بالرغم من اختلاف دينها وأنجب منها فتاتين بغاية الجمال, زينب وفاطمة. ومع مرور ساعات النهار والليل, أدرك عمر الحمزاوي أن شيئا تغيّر فيه.لذا قرر زيارة طبيب يعرفه منذ أيام الجامعة شاكيا له ألمه قائلًا : "ولكنني لا أدري ما حلّ بي وما الذي  غيّرني"" لم يجد  الطبيب علل جسدية به بل نصحه بالرياضة  والإنقاص من وزنه. إلا أن عمر لم يقتنع بهذا التشخيص  وانتهى الأمر به بأن يصف نفسه ب"المريض بلا مرض" / "لا أعتقد اني مريض بالمعنى المألوف" / "أعني لا أشكو عرضا من الأعراض المرضية المألوفة ولكني أشعر بخمول  غريب..." . بل ازدادت عوارض مرضه وكثرت الأسئلة عنها يوما بعد يوم: "وتمضي الحياة, ولكن الى أين؟" / "وما شأن هذا الوجود الخشبي؟", واصفا الحياة ب"عذاب الوجود."


 

هنا ابتدأت مغامرات عمر. فقد انسلخ في بادئ الأمر عن شغفه بعمله والضرورة بالقيام به فقال: 

"الحق أنه نتيجة لذلك الخمود  ماتت رغبي في العمل " / "ليس تعبا بالمعنى المألوف, يخيل الي اني ما زلت في العمل ولكني لا أرغب فيه, لم تعد لي رغبة على الاطلاق" . ثم انسلخ عن زوجته  وبناته : "وكثيرا ما أضيق بالدنيا، بالناس، بالأسرة نفسها" / "هجرت بيتي نهائيا". كان مرضه يشتد مع الأيام, فأخذ يقول: "ما أفظع الجو, لم أعد أحبّ شيئا حبّا خالصا" .بعدها, بات يتجوّل في الملاهي الليلية بين الويسكي وبين البحث عن حبّ جديد تارّة مع مارجريت, تارة مع وردة... لكن القبل لم تداويه. استنتج أن " لا الشعر و لا الخمر ولا الحبّ  يلبي تلك النشوة." فالقلب لم يعد يفرز الا الضياع وبين النجم يترامى الفراغ والظلام وملايين السنين الضوئية." استمر بالسير نحو  "نداء خافت وغامض" كانسان "هاربو يائس ومعذّب". انتهى به الأمر ببلوغ النشوة وحده, منعزلا عن البشر, ليلا في طريق صحراوي, بين النجوم والأهرام, والظلام والقمر :" "وفجأة رقص القلب بفرحة واجتاح السرور مخاوفة وأحزانه و كل جارحة رنمت وكل حاسة سكرت واندفنت الشكوك والمخاوف والتعب." "ارتفع فوق أي رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب, ونظر الى الطريق بفتور كأنما يخاطب شخصا أمامه : هذه هي النشوة." تنتهي الرواية بجنون بطلها, وانسلاخه عن الواقع : بين الأحلام والهلوسات. اختار اللجوء إلى الطبيعة بين أشجار السرو والحشائش, بين الأنوار والظلمات، وبين التأمل والتساؤل :" "لست شيئا في الواقع" /"انني ميت الحواس"/ " متى أرى وجهه؟ ألم أهجر الدنيا من أجلك؟"

يختتم محفوظ روايته ببيت شعر ينطقه بطلها : "ان كنت تريدني حقا فلم هجرتني؟!".