"مدام سنّو" البوصلة والريح
كاتيا الطويل
يقول رابع الخلفاء الراشدين عليّ بن أبي طالب:
لا دار لِلمَرءِ بَعدَ المَوت يَسكُنُها إِلّا الَّتي كانَ قَبل المَوتِ يَبنيها
فَإِن بَناها بِخَير فازَ ساكِنُها وَإِن بَناها بشرّ خاب بانيها
ويمكنني أن أؤكّد في هذا النصّ المقتضب المتواضع الذي أكتبه اليوم بكلّ حزن وحنين وحرقة، أنّ الدكتورة هبة شبارو-سنّو بنت دارها في هذه الدنيا وفي الآخرة على الخير والعطاء والمحبّة. إنسانة وأستاذة وباحثة بهيّة وبديعة وبارّة فقدها الحقل الأدبيّ والحقل الجامعيّ هذا العام وفقدها طلاّبها الذين طالما اتّكؤوا عليها وتوكّؤوا.
كرّست نفسها "مدام سنّو"، كما كنّا نناديها، ولسنوات طويلة للطلاّب وللأبحاث وللتعليم. منذ سنتنا الأولى في الأدب العربيّ وهي تسير إلى جانبنا وتأخذ بيدنا وتعاملنا كورثتها الفكريّين. شُغفنا بها، خفنا سورات غضبها، أردنا أن نتشبّه بها، أن نعرف بقدر ما تعرف وأن نفهم بقدر ما تفهم. امرأة بارعة متوهّجة تعطي الصفوف بحرفيّة وجدّيّة، وتتابع تقدّم الطلاّب وتحفّزهم، وتشرف على الرسائل والأطاريح بحزم ومهارة، وتمسك بين يديها بمصائرنا الجامعيّة وطموحاتنا العلميّة.
سارت "مدام سنّو"، كما كنّا نناديها، ولسنوات طويلة في أروقة الطابق السادس في حرم العلوم الإنسانيّة بجامعة القدّيس يوسف في بيروت بهدوء وتؤدة وتواضع وبين يديها أوراق وكتب ومصادر ومراجع وأحلام طلاّب بالنجاح والتفوّق. قالوا لنا أوّل ما وصلنا إلى معهد الآداب الشرقيّة إنّها متخصّصة في الصرف والنحو، قالوا لنا إنّها وضعت الكتب والأبحاث والمقالات، قالوا لنا إنّها تحفظ آلاف الأبيات والقصائد من الشعر القديم. قالوا لنا الكثير الكثير لكنّنا لم نفهم ما قالوه إلاّ عندما تابعنا صفوفها واحتكّينا بها وتعلّمنا منها.
كانت "مدام سنّو"، كما كنّا نناديها، ولسنوات طويلة "جبهة الإسناد" الخاصّة بنا. علّمتنا ووجّهتنا وآزرتنا وقدّمت لنا وظائفنا الأولى وأحلامنا الأولى وتوجّهاتنا الأولى. آمنت بنا ومنحتنا الدعم والعزيمة والنصح والإرشاد حين لم نكن نعرف أنفسنا بعد. عرّفتنا بمن كان يجب أن نعمل معهم، أرسلتنا إلى حيث كان يجب أن نذهب، منحتنا الفرص التي كان يجب أن نغتنمها. كانت ببساطة الريح لأشرعتنا الفتيّة.
وها نحن اليوم نودّعها. نودّعها والغصّة في قلوبنا والحنين بين أضلعنا. كيف مرّ الوقت بهذه السرعة؟ كيف حلّ يوم الفراق ونحن غير جاهزين بعد؟ نعدّ السنوات ونكتشف أنّنا عرفنا "مدام سنّو" لما يربو على الخمسة عشر عامًا. خمسة عشر عامًا عاشتها إلى جانبنا تراقبنا من بعيد نكبر ونرحل، نكبر ونرحل، بينما ظلّت هي عمودًا من عواميد المعهد، برّ الأمان الذي ترسو عليه سفننا. صدق المعرّي حينما قال غير مجدٍ نوح باكٍ ولا ترنّم شادِ، لكنّ كلمة الحقّ يجب أن تُقال والدين يجب أن يوفى وكلّ صاحب حقّ يجب أن ينال حقّه، فشكرًا لك "مدام سنّو"، شكرًا لإيمانك بنا وحبّك لنا وزودك عنّا في زمن احتجنا فيه إلى مثال وقدوة وبوصلة.