في إطار الاحتفالات بالذكرى الـ150 لتأسيس جامعة القدّيس يوسف في بيروت (USJ) واحتفاءً بالسنة الدولية للعلوم والتكنولوجيا الكمّية، نظّم قسم الفيزياء في كليّة العلوم حفل توزيع جوائز المسابقة الوطنية «الرؤية الكميّة: لبنان الغد»، وذلك برعاية كريمة من معالي البروفسورة تمارا الزين، وزيرة البيئة.
أُقيم الحفل بحضور البروفسور سليم دكّاش اليسوعيّ، رئيس جامعة القدّيس يوسف في بيروت، وعدد من الشخصيات البارزة في الأوساط الأكاديميّة والعلميّة والمؤسّسيّة، بالإضافة إلى نوّاب رئيس الجامعة ومديري وأساتذة المدارس الشريكة.
في كلمتها الافتتاحية، شدّدت البروفسورة ماري عبّود مهنا، رئيسة قسم الفيزياء، على أن هذه المسابقة وُلدت من تضافر القناعات والمواهب والالتزامات. وقد أبصرت النور في خريف العام 2024، في سياق صعب حين كان لبنان يرزح تحت وطأة حرب جديدة، فجاءت كفعل مقاومة بالمعرفة والتعليم والشباب.
وقد شدّدت على أهمية الاحتفاء بفيزياء الكم، هذا الحقل العلمي الذي يدعو إلى التفكير المختلف ويفتح آفاقًا جديدة للابتكار. واستحضرت من مسيرتها كطالبة دكتوراه في مختبر كاستلر بروسيل في المدرسة العليا للأساتذة في باريس، أمنيتها بنقل روح الاكتشاف والجرأة العلمية والفضول الفكري إلى الأجيال الشابة.
وذكّرت عبّود مهنا بأنّ المسابقة نُظّمت بالشراكة مع المجلس الوطني للبحوث العلميّة في لبنان، واللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو، وشركة لوريال – لبنان، ومجموعة غصوب للاستشارات، ومكتبة أنطوان، وشركة Labise، والسيد فادي بدر. وقد شارك فيها أكثر من 150 تلميذًا وتلميذة من 22 مدرسة من مختلف أنحاء البلاد، وتمّ تقديم نحو خمسين مشروعًا تناولت مواضيع متنوّعة مثل التشفير الكمّي، والمواد الذكية، وكشف الملوّثات، والتشخيصات الطبية المبتكرة.
وخلال الحفل، جرى تكريم ثمانية مشاريع فائزة: ثلاثة في فئة «الملصقات»، وثلاثة في فئة «المشاريع الرقمية»، ومشروعان عن «أفضل مساهمات نسائية»، في خطوة تهدف إلى إبراز دور الفتيات في مجالات العلوم.
من جهته، أكّد البروفسور ماهر عبّود، عميد كليّة العلوم، أنّ «العِلم، ولا سيّما الفيزياء، هو محرّك التقدّم»، مشيرًا إلى أنّ تقنيات الكمّ تُعدّ اليوم من أبرز ركائز الابتكارات الثورية في القرن الحادي والعشرين. وتحدّث بحماسة عن غرابة هذا العالم الكمّي الساحر، حيث «يمكن للإلكترونات أن توجد في أماكن متعدّدة في الوقت نفسه»، وحيث «يمكن لجسيمَين أن يبقيا مترابطين بشكل غامض، مهما بعدت المسافة بينهما»، مشدّدًا على ضرورة تعريف الشباب على هذا المستوى من الواقع الذي تحكمه قوانين مختلفة جذريًّا.
وأشاد بعمل قسم الفيزياء، ولا سيّما بالبروفسورة عبّود مهنا وفريقها، على إطلاق مسابقة «تدعو طلاّبنا في المرحلة الثانوية إلى استكشاف هذا الجانب الآسر من الفيزياء»، من خلال أفكار وحلول ملموسة لبناء لبنان أفضل، في مجالات متنوّعة كالصحّة، والصناعة، والتعليم، والبيئة. وحرص على تهنئة جميع المشاركين على «خيالهم الخلّاق، وإبداعهم، ودقّتهم العلمية»، مشجّعًا إيّاهم على متابعة مسيرتهم العلميّة، ومؤكدًا أنّ كليّة العلوم في جامعة القدّيس يوسف، بوصفها منبرًا للتميّز وإنتاج المعرفة وتدريب الباحثين، ستكون دومًا داعمة لهم ومرافقة لطريقهم.
من جهتها، شدّدت السيّدة رمزة جابر، ممثّلة اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو، على أنّ هذه المبادرة تجسّد تمامًا مهام اللجنة، والمتمثّلة في ترجمة مبادئ اليونسكو على المستوى المحلّي، من خلال تعزيز الوصول إلى تعليم عالي الجودة، ونشر المعارف العلميّة، وتنمية مواطنة واعية ومستنيرة. واعتبرت أنّ هذه المسابقة قدّمت للتلاميذ ما هو أكثر من مجرّد مساحة للتعبير، بل شكّلت فرصة حقيقيّة للتفكير بالمستقبل بروح من الدقّة والخيال.
وأعربت عن بالغ امتنانها لجامعة القدّيس يوسف، ولا سيّما لكليّة العلوم فيها، على التزامها النموذجي، كما شكرت المجلس الوطني للبحوث العلميّة على دعمه الحاسم. وتوجّهت بتحية إلى المدارس المشاركة في المسابقة، وخصوصًا المدارس المنتسبة إلى اليونسكو، وإلى التلاميذ الذين وصفتهم بالمتألّقين، الشغوفين، والمبدعين. وأكّدت أنّ مشاريعهم تثبت أنّ العِلم يمكن أن يصبح «لغة مفهومة، ملهمة، ومُغيّرة»، وأنّهم يمثّلون جيلاً شابًا «يفكّر، يبتكر، ويؤمن بعد بقدرة المعرفة». وختمت مشدّدة على جودة المشاركات النسائية التي تعكس بقوّة الدور المتنامي للفتيات في مجال العلوم.
ومن بين المداخلات اللافتة خلال الحفل، كانت كلمة الدكتور جورج غاريوس، المسؤول الوطني عن برنامج العلوم في مكتب اليونسكو في بيروت، حيث ذكّر بالدور المحوري الذي تضطلع به هذه المنظمة الأممية في تعزيز دور العِلم في خدمة السلام، والتنمية المستدامة، والأمن الإنساني.
شدّد الدكتور غاريوس على أهمية برامج مثل «البرنامج الدولي للعلوم الأساسية» (IBSP) الذي يدعم التعاون بين الحكومات بهدف تعزيز القدرات الوطنية في مجالات العلوم الأساسيّة. وتطرّق أيضًا إلى الدور التحفيزي الذي تلعبه اليونسكو في إنشاء مؤسّسات علميّة دوليّة كبرى، مثل مركز الأبحاث النوويّة الأوروبي CERN الذي اكتُشف فيه بوزون هيغز، أو مركز SESAME، وهو مختبر للأشعة السنكروترونية مقره الأردن ويُعرف بـ «سيرن الشرق الأوسط»، ما يدلّ على أنّ العِلم قادر أيضًا على بناء جسور بين دول ذات علاقات معقّدة.
وفي سياق السنة الدولية للعلوم والتكنولوجيا الكمّية، ذكّر بأنّ هذه المبادرة تُشكّل فرصة مهمّة لتسليط الضوء على التحدّيات والإمكانات التي تنطوي عليها فيزياء الكم، لا سيّما في الدول النامية. وأكّد على التزام اليونسكو بتعزيز العدالة في هذا المجال التحويلي، عبر تشجيع مشاركة أوسع من قبل الشباب والفتيات في المسارات العلميّة.
وهنّأ التلاميذ على مشاركتهم المميّزة في المسابقة، مشيدًا بابتكاراتهم والتزامهم، معتبرًا أن أعمالهم تُشكّل دليلاً ملموسًا على ثمار الاستثمار في التعليم العلمي، وأنّ مثل هذه المبادرات تمثّل قاعدة صلبة لبناء مجتمعات أشدّ وعيًا ومرونة واستدامة.
وفي كلمة ألقتها نيابةً عن الدكتور شادي عبد الله، الأمين العام للمجلس الوطني للبحوث العلمية – لبنان (CNRS-L)، نوّهت الدكتورة إيمان عبّاس بالتزام جامعة القدّيس يوسف التاريخي، واصفةً إيّاها بالمحرّك الحقيقي للابتكار، إذ تُخرّج منذ 150 عامًا عقولًا قادرة على تحويل أشد الأفكار جرأة إلى واقع. وأكّدت أنّ المجلس الوطني للبحوث العلميّة يواكب هذه الديناميّة كشريك استراتيجي، عازم على دعم بحوث طموح، شاملة، ومتجذّرة في التحدّيات المعاصرة.
وأشارت ممثّلة المجلس الوطني للبحوث العلمية إلى أنّ المجلس، وفي وفاءٍ لرسالته، يسعى جاهدًا إلى تعزيز أوجه التعاون بين المؤسّسات الجامعيّة، والتخصّصات العلميّة، والأجيال المتعاقبة من الباحثين، انطلاقًا من قناعة راسخة بأنّ العِلم هو قوّة محركة للتحوّل الاجتماعي والثقافي. كما سلّطت الضوء على الرؤية الاستراتيجية الجديدة التي أُطلقت العام 2023، والتي ترتكز على تبنّي التكنولوجيا المتقدّمة والأدوات الرقمية بهدف مواجهة التحدّيات الكبرى التي يواجهها لبنان بشكل أكثر فاعلية.
ومن خلال برامجه المتعلّقة بالتنقّل والتدريب وتمويل المشاريع الابتكارية، يواكب المجلس الوطني للبحوث العلمية المؤسّسات والباحثين في مساعيهم لإيجاد حلول قائمة على التميّز العلمي. وفي هذا السياق، تكتسب الشراكة مع جامعة القدّيس يوسف معنًى خاصًا: فهي شراكة متينة، دائمة، وتحمل في طيّاتها وعدًا بالمستقبل، تتجلّى في دعم فعّال للأبحاث عالية الجودة وفي رعاية ظهور طاقات علمية شابّة واعدة.
وأكّدت الدكتورة عبّاس أنّ هذا الرابط الوثيق مع جامعة القدّيس يوسف يعكس رؤية مشتركة للبنان يتطلّع إلى المستقبل، ويُراهن على العِلم، والشباب، والابتكار. وختمت مداخلتها بالتشديد على أنّ هذه المسابقة تُجسّد بأفضل وجه هذه الإرادة في بناء بحث علمي لبناني منفتح، ومواكب للتطوّرات العالمية، ويخدم التنمية المستدامة والقدرة الوطنية على الصمود.
من جهته، شدّد البروفسور سليم دكّاش اليسوعيّ، رئيس جامعة القدّيس يوسف، على أنّ فيزياء الكمّ، بما تنطوي عليه من تعقيدٍ آسر، تدعونا إلى تجاوز حدود التفكير التقليدي. وإذ تناول مفاهيم مثل التشابك، واللّايقين، والتراكب، أشار إلى أنّ هذا العلم يُعيد النظر في تصوّراتنا المألوفة عن الواقع، ويقترح رؤية للعالم قائمة على الإمكانات والترابط.
وفي بلدٍ يتخبّط في أزماته وعدم اليقين، أشاد دكّاش بالتزام الشباب المشاركين في هذه المسابقة، معتبرًا إيّاهم بشارة أمل. وأكّد على ضرورة صون هذه الطاقات الشابة، واصفًا إيّاها بـ «أثمن ما يملكه الوطن»، داعيًا إلى دعمها والاحتفاء بها في كلّ فرصة.
وهنّأ بحرارة الفائزين، ورأى فيهم حاملي «رؤية كمّية» للبنان الغد: بلد لا يرضى بالجمود، يجعل من الخيال محرّكًا لإعادة البناء، ومن الأفكار قوّة قادرة على تجاوز العوائق. وختم مداخلته بالتمنّي بأن تتحوّل هذه الرؤية المشتركة إلى واقع جماعي نصنعه معًا.
وفي كلمتها، توجّهت معالي وزيرة البيئة، الدكتورة تمارا الزين، بتهنئة حارّة إلى الفائزين، مثنيةً على الجودة الاستثنائية لمشاريعهم وحماستهم الكبيرة تجاه موضوعٍ علميّ دقيق ومُلهم في آن. كما أعربت عن امتنانها العميق لقسم الفيزياء في كليّة العلوم على إطلاقه هذه المبادرة ورعايتها، مؤكدةً أنّها تسهم بشكل فعّال في إعادة إشعال شغف الشباب بالعلوم.
وأكّدت الوزيرة في ختام كلمتها أنّ الثورة الكمّية التي نشهدها اليوم يمكن مقارنتها، من حيث قدرتها على إحداث تحوّل مجتمعي جذري، بالثورة النووية في القرن الماضي. فوفقًا لها، إنّ التحوّلات التي تفرضها علوم الكمّ اليوم مرشّحة لإحداث تأثيرات عميقة على أنماط حياتنا، وتكنولوجياتنا، ونُظم تفكيرنا.
ومن أبرز محطّات هذا اليوم، كانت لحظة تسليم الكتاب التذكاري «150 عامًا من تاريخ جامعة القدّيس يوسف»، والتي قام بها البروفسور سليم دكّاش تكريمًا لعدد من الشركاء المؤسّسيين. وقد قُدّم هذا الإصدار الرمزي إلى معالي الوزيرة تمارا الزين، وإلى المجلس الوطني للبحوث العلمية ممثّلًا بالدكتورة إيمان عبّاس، وإلى مكتب اليونسكو – بيروت ممثّلًا بالدكتور جورج غاريوس، وإلى اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو ممثّلة بالسيّدة رمزة جابر.
وفي سياق هذا التكريم، عُقدت جلسة عامة بعنوان: «رحلة في عُمق العلوم الكمّية: تجارب وإلهامات»، جمعت جمهورًا من المهتمّين حول تأمّلات متقاطعة تناولت التحدّيات المعاصرة في مجال فيزياء الكم. وقد أدار الجلسة البروفسور زياد فرنسيس من كليّة العلوم، وشارك فيها الدكتور شارل أنطوان من جامعة السوربون، سفير الكمّ عن CNRS في فرنسا؛ والسيّدة سينتيا فنرجي، نائبة مديرة مدرسة راهبات القلبين الأقدسين – سيوفي؛ إضافةً إلى شهادات مصوّرة لثلاثة من خرّيجي وطلاّب كليّة العلوم: مارك بو زيد، وميشال الحاج، وأنطونيو طوق.
كما تسلّم داعمو هذه المبادرة نسخًا تذكارية من الكتاب، قدّمها البروفسور ماهر عبّود والبروفسورة ماري عبّود مهنا، عربون شكر وامتنان. وقد شمل التكريم: شركة لوريال – لبنان ممثّلة بالسيّدة سميرة فرنجية، مكتبة أنطوان ممثّلة بالسيّدة نانسي أزعور، شركة Labise ممثّلة بالدكتور دافيد هارون، ومجموعة غصوب للاستشارات ممثّلة بالسيّد ميشال غصوب.
واختُتم الحفل بتوزيع الجوائز على الفائزين السبع والعشرين في المسابقة، ضمن فئات «الملصق»، و«المشروع الرقمي»، و«أفضل مساهمة نسائية». وقد شكّلت هذه اللحظة الختامية تحيّة لتفاني التلاميذ، وإبداعهم، وتميّزهم العلمي، وهم الذين مثّلوا مدارس لبنانية متنوّعة، واستطاعوا أن يجمعوا في أعمالهم بين الدقّة العلمية وروح الخيال.