عزيزي منير

27 Juin 2016

"قفوا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلةٍ ..." يطيب لي أن استحضر امرىء القيس للتذكير ببيته الشهير في مطلع معلقته وقد حوّرته قليلاً للمناسبة وإن انكسر، بتحويري، وَزنُ البيت. وأنا أيضًا أريد أن أقفَ واستوقفكم، وأبكي وأستبكيكم، لذكرى غيابِ علمٍ من أعلامِ فرع علم النفس في جامعة القديس يوسف لا بل علم من أعلام علم النفس والعلاج النفسي وواحد من اقدم ممارسيه في لبنان وحتى في الدول العربية قاطبة. منير شمعون هو فعلاً من الأحباء الذين يصعبُ فقدانهم على من عرفوهم. خفيضُ الصوت على ثقة، محدثٌ لبق لا بل ساحر لديه كاريزما خاصة به. لا يشبهُ أحدًا غير نفسه، يعرف كيف يلتقط جمهوره فيشده إلى درر تنساب ملونة ومتناسقة مرصعة ببعض النهفات التي تريح الفكر فيستفيد بصورة أفضل وأعمق، مثقف فذّ بالمعنى الأصيل للكلمة، قارىءٌ نهِمٌ ومطلعٌ على أحدث ما في علم النفس يغذي به طلاّبه، عاملٌ بدون كلل على الدراسة والتأليف والتنظيم والإدارة والريادة والتعليم حوالي الساعات الثمانية عشرة في اليوم. أبٌ حنون، وجدّ أكثر حنانًا، أخ مقرّب وصديق مؤتمن، طيب القلب، دمث الأخلاق حسن المعشر، يحسن الإستماع كما يحسن صياغة الموقف. غير مؤدلج وغير دوغماتي يعتمد المقاربة النقدية والعلمية والموضوعية في نظرته وأحكامه. ترك شيئًا منه في كل واحد منا بدون أن يستطيع أي منّا أن يجاريه أو يقارب منزلته. ولمن لا يعرف، فقد عرضنا عليه مرارًا وتكرارًا في الفرع أن نكرمه ونشكره على عطائه وتقديماته للمهنة وللفرع بالذات ولكنه رفض بإباء يغلفه تواضع رقيق معتبرًا ان ما فعله لم يتعدَّ الواجب لا بل بقي مقصرًا عنه. إلى جانب منزلته في القلوب في ما ذهبنا إليه، للبروفيسور منير شمعون "منزلة" أخرى موازية تكمن في موقعه السامي بين نظرائه في لبنان والغالبية الساحقة منهم من تلاميذه الذين نهلوا من ينبوعه المعرفي الغزير واستفادوا من سعة اطلاعه الموسوعي وفكره النقي، النير، الزلال. مع قلةٍ آخرين، يعدون تقريبًا على أصابع اليد الواحدة، كان منير شمعون من أوائل من سلكوا درب التأهل في علم النفس والعمل في العلاج النفسي عامة في عيادته كما في بعض المدارس والمؤسسات التربوية أو التأهيلية أو الدينية وما إليها قبل أن يستقر في في مهماته الجامعية وفي العلاج التحليلي مفضلاً قصر نشاطه المهني عليهما. باشر تعليم الفلسفة وعلم النفس في بداية الستينات في مدرسة الحكمة ولكنه لم يستمر في تعليم الصفوف الثانوية إذ ناداه التعليم الجامعي فانتقل سريعًا إلى معهد الآداب العليا حيث أسس فرع علم النفس فيه وزوده بأفضل البرامج وأفضل المدرسين اللبنانيين كما الأجانب بالتعاون الوثيق مع رئيس المعهد وصديقه المقرّب البروفيسور الأب اليسوعي سليم عبو، أطال الله عمره. ولما قضت الحرب اللبنانية التي استعرت في منتصف السبعينات من القرن الماضي فقطّعت أوصال الوطن، بأن أجبرت البعثة الثقافية الفرنسية على التخلي عن "مدرسة الآداب العليا" إنتقل الصديقان إياهما إلى جامعة القديس يوسف فأسسا، في العام 1977، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ومن ضمنها فرع علم النفس الحالي فاستلم البروفيسور الأب عبو عمادتها واستلم البروفيسور شمعون رئاسة فرع علم النفس فيها لحوالي 20 سنة. مع ارتقائه إلى رئاسة الجامعة، عين الأب عبو البروفيسور شمعون واحدا من نوابه وأناط به مهمه إنشاء مجلس البحوث وإدارته. كما عهد إليه مهمة إنشاء وتنظيم وإدارة "الجامعة المفتوحة" وهي كناية عن دروس عامة متنوعة ترتبط بعدد كبير من فروع الآداب واللغات والفنون والفلسفة والعلوم الإنسانية موجهة لغير المتخصصين يلقيها علماء مخضرمون يمكنهم تحويل مخزونهم المعرفي الشديد التخصص ليتناسب مع مستوى جمهور عريض متعطش للثقافة. نجح منير شمعون نجاحًا باهرًا في جميع تلك المهمات. نجح كمعلم بشهادة مئات الطلاب الذين تتلمذوا على يده، ونجح كباحث ومنظم وإداري في الفرع الذي أداره والذي يحفظ له أسمى آيات الشكر على المكانة الفريدة التي أوصله إليها. نجح أيضًا في إنشاء وإدارة مجلس البحوث والجامعة المفتوحة وكلاهما ما زالا شاهدين حيّين على البصمة البهية التي تركها في كلا الصرحين. أخيرًا وليس آخرًا، بالنسبة إلي كان منير شمعون المعلم الذي استطاع الإفادة من معارفه، المربي الذي عرف كيف يستمع ويرافق، المستشار الناصح الذي عرف كيف يهدي أفضل التوصيات، الزميل الذي عرف كيف يتحول فيقبل المتساوي، المرجع الذي بزّ جميع المراجع الأخرى، الصديق الدائم الحضور الذي استطاع خفض منسوب القلق والهموم، وإزاحة الشكوك، وتصحيح المسارات. عزيزي منير... صدقًا، لا يموت من كانت تلك مزاياهم ومن تركوا لنا بصمات محفورة لا تمحى ولا تزول. هم أحياء في القلب... والتفكير... والذاكرة... نم قرير العين يا معلمي وصديقي، على أمل اللقاء القريب. البروفيسور أنطوان رومانوس أستاذ علم النفس في جامعة القديس يوسف، بيروت