فريدي باز حاضر في اليسوعيّة عن "الأزمة النقديّة في لبنان من نقطة الانعطاف إلى النقطة الحاسمة"

الخميس 12 كانون الأول 2019
Campus de l'innovation et du sport

بدعوة من كليّة العلوم الاقتصاديّة في جامعة القدّيس يوسف في بيروت، حاضر الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور فريدي باز حول "الأزمة النقدية في لبنان من نقطة الانعطاف إلى النقطة الحاسمة"، في أوديتوريوم فرانسوا باسيل، في حرم الابتكار والرياضة، طريق الشام، بحضور رئيس الجامعة البروفسور سليم دكّاش والعميد كليّة العلوم الاقتصادية البروفسور جوزف  الجميّل وشخصيات سياسيّة واقتصادية وحشد من الأساتذة والطلاّب ومسؤولي الجامعة ومهتمين.

 

أزمة نقديّة حادّة

 استهل باز حديثه عن الأزمة النقديّة الحادة والشائكة التي يمرّ بها لبنان بالتشديد على أن "الكثير مما يقال حول هذا الموضوع يحمل نوعًا من الإثارة"، واختار التركيز على الإطار العلمي والتقني والأكاديمي، قال باز. وتابع: "هناك ثلاثة أجيال من الأزمات النقديّة التي يمكن أن يمر فيها بلد مثل لبنان يتميز باقتصاد صغير ومنفتح على الخارج، ونحن في الجيل الثالث وهو الأكثر جديّة. لكن هذه الازمة ليست تلقائية ولا مستقلة بل متدرجة. إذ بدأت مع الجيل الأول في سياق عدم اتخاذ اي إجراء استباقي من قبل السلطات المعنية، ما أدى إلى تطوّرها إلى المرحلة الثانية التي تتميّز بفقدان تامّ للثقة. وعندما نصل إلى المرحلة الثالثة تكون التوأمة قد حصلت بين مشاكل الاقتصاد الحقيقيّ وأزمة الماليّة العامّة وأزمة المدفوعات الخارجيّة وأزمة السيولة المصرفيّة. ويمكن أن نتخيل مدى خطورة هذا الخليط المتفجّر".

وأشار باز إلى أنه "من البديهي وقوع مثل هذه الأزمات، ويمكن أن تحصل في العديد من البلدان. وتشير  الإحصاءات إلى أن البلدان التي حصلت فيها هكذا أزمات عانت من تشوهات كبيرة في الاقتصاد وتداعياتها الاجتماعيّة والماليّة والمصرفيّة كبيرة. لكن من المتوقع أن تكون الأزمة أكثر حدة في لبنان لأنها تحصل في سياق اقتطاع وتضخّم ومعدل بطالة قارب الـ40% وتوزيع غير عادل للدخل وبنية تحتية ضعيفة وتقديمات اجتماعية شبه معدومة".

أزمة بنيويّة

وأردف: "الأزمات النقدية غير مستقلة. فهي لا تنشأ من فراغ، بل هي تعبير عن أزمة بنيوية أكبر بكثير. في مروحة الأزمات الاقتصادية هناك أزمات لها علاقة بالإنتاج، أو الإستهلاك، أو المالية العامة أو المدفوعات الخارجية، لكنها تترجم في شكل واحد، أي قيمة النقد. الأزمة البنوية الناتجة عن سياسات سيئة أوصلتنا  إلى هذه الأزمة النقدية الحادة. منذ سنة 1992 شرعنا ببناء اقتصاد منحرف ومختل، أخذ ينتج دينًا داخليًا وآخر خارجيًا. اقتصاد استهلاك واستيراد وليس اقتصاد إنتاج، أي أن الاستهلاك على مدى 27 سنة شغل 88% من الناتج، أي أكثر من قدرتنا على الإنتاج، وبالتالي خلقنا تبعية للخارج. مقابل ذلك ماذا أنتجنا؟ اقتصاد خدمات ذو انتاجية متدنية جدًا واستهلاكه لليد العاملة الماهرة قليل".

وذكّر باز بأن "بحسب البنك الدولي حقق لبنان على مدار هذه السنوات نسبة نمو سنوي قاربت الـ4%، لكن ما يهمنا هو التطلع إلى التقلبات الحادة لهذه النسب، ما لا يساعد على خلق اقتصاد مستدام يؤمّن وظائف ويحارب الفقر ويحدّ من هجرة الأدمغة. هذا النموذج الاقتصادي المختل يقابله مالية عامة ليست أيضًا في أفضل أحوالها. فالإدارة غارقة بالفساد والهدر وجباية الضرائب غير فاعلة، إذ هناك دائمًا 10% فرق بين ما تحصله الدولة وما يفترض بها أن تحصّله. أما على صعيد الإنفاق فنرى أن 72% من قيمته على مدى 27 سنة، كانت تصرف على الأجور وخدمة الدين والتحاويل إلى شركة كهرباء لبنان، فلم يبق شيء للإنفاق الاستثماري على بنية تحتية تعزّز تنافسيّة الاقتصاد اللبناني. لذلك أصبحنا نرى عجزًا متكررًا للموازنة، تُرجم بخلق مديونية متعاظمة وصلت إلى مستويات لا يستطيع الاقتصاد السيطرة عليها. لذلك نواجه اليوم صدمات من دون إمكانية مواجهتها بموازنة مرنة تحفز الاقتصاد. اقتصاد الاستهلاك هذا، والذي لم يكن موجودًا قبل الحرب الأهلية، إذ كانت صادرتنا تمثل 65% من الواردات، أخلَّ بميزاننا الغذائيّ الذي هو مؤشر مهم على مدى استقلالنا وسيادتنا".

وقال باز: "دخل على البلد في هذه الفترة 290 مليار دولار، أي لم تنقصه الموارد لبناء اقتصاد حقيقيّ وتنافسيّ في ظلّ حوكمة رشيدة. فقد حصلت الحكومات المتعاقبة 168 مليار دولار لكنها أنفقت 250 مليار إنفاقًا غير مجدٍ ممول بعجوزات ومديونية".

أجبال متعاقبة وتحديّات

بالعودة إلى موضوع الأجيال المتعاقبة للأزمات النقديّة قال باز إن "الجيل الأول بدأ في أيار الـ2016 لأن في هذا التاريخ أطلق البنك المركزي هندساته الماليّة ما شكّل مؤشرًا على الصعوبات الماليّة. لكن قبل ذلك في الـ2011 مع بداية الحرب في سوريا والتشنجات الإقليمية، وفي ظلّ انخفاض سعر البترول، تراجعت التحويلات المالية إلى المنطقة ومن ضمنها لبنان، وصولاً إلى شبه توقفها مع تحويل 3 مليارات دولار فقط إلى لبنان في أول 7 أشهر من الـ2019. أدى ذلك إلى عجز تراكمي في ميزان المدفوعات وصل إلى 18 مليار. في السياق نفسه تفاقم العجز في الماليّة العامة، أي نموّ نسبة الإنفاق أسرع من نسبة نموّ الإيرادات،  وحقق لبنان عجز بالميزانية قارب الـ37 مليار دولار.  كما أن سياسة تثبيت سعر صرف الليرة خلقت منذ إطلاقها سنة 1997 "وحشًا" هو كناية عن موجودات في البنوك أكبر 4 مرات من حجم الاقتصاد، وهو ما ليس موجودًا لا في هونغ كونغ ولا في سنغافورة. خلق ذلك دولرة للاقتصاد".

وبالتالي هناك ثلاثة تحديّات كبرى للاقتصاد الكليّ يواجهها لبنان الآن، وفقًا لما قاله باز: "الدين العام غير المستدام الديناميكي على خلفية النموّ السلبي، وارتفاع أسعار الفائدة وإدارة فاسدة وغير فعالة؛ دين ديناميكي خارجي لا يمكن تحمله بسبب التوقف المفاجئ تقريبًا لتدفقات رأس المال، وهي عملة تقدر قيمتها بنسبة 50٪ (وفقًا لصندوق النقد الدولي)، ومخاطر هائلة لإعادة التمويل والتآكل السريع لاحتياطيات النقد الأجنبي في المصرف المركزي".

في هذا السياق، حذّر باز من أن "تأثير الهبوط الصعب أمر مكلف للغاية، على مستوى الركود العميق في الناتج المحلي الإجمالي، وإعادة الهيكلة المعقدة للديون، وإعادة الرسملة الحتميّة للبنوك وخطر حقيقي من ثقب الودائع".

مهما كان خيار الخروج من الأزمة، حذّر باز من أنه سيتعين على لبنان أن يطلب مساعدة ماليّة دولية لا مفرّ منها؛ أكان من صندوق النقد الدولي أو من مجموعة أصدقاء لبنان أو من مجلس التعاون الخليجي وغيرها، والمتطلبات ستكون هي نفسها تقريبًا:

• تنفيذ الإصلاحات الهيكليّة في غضون 12 شهرًا كحد أقصى.

• إعادة ضبط السياسات النقدية والمصرفية لاحتواء مشاكل الملاءة المحتملة.

• تحديد أهداف العجز والديون بحد أقصى 100 ٪ على مدى 5 سنوات (6 ٪ النمو الحقيقي و 6 ٪ قاعدة الفائض الأولي).

• إضفاء الطابع الرسمي على ضوابط رأس المال وأن تكون شفافة تمامًا مع المودعين والدائنين.

• التخفيض الفوري للواردات بنسبة 30 إلى 40 ٪ (استنادًا إلى تجارب من بلدان مماثلة)

• استكشاف مع صندوق النقد الدولي أسئلة تقييم سعر الصرف الحقيقي.

• خطط لإعادة هيكلة لطيفة للديون الخارجية بما يتوافق مع احتياجاتنا من السيولة قصيرة الأجل بالعملات الأجنبية.

• تعزيز امتصاص الصدمات الاجتماعية، وخاصة على مستوى أفقر الناس.

"لكن هذه القرارات صعبة ومعقدة بسبب الروابط غير المحببة بين ميزانيات مصرف لبنان والبنوك والحكومة، ولا سيّما بسبب تفاقم التوترات الاجتماعيّة والسياسيّة التي من المحتمل أن تحصل في أوقات الثورة. على كل هذه الجبهات، المسؤولية التاريخية لصانعي القرار السياسي والأحزاب السياسية والمجتمع المدني كبيرة جدًا"، ختم باز محاضرته. 

 

ألبوم الصور 

المحاضرة كاملة عبر هذا الرابط