من الميثولوجيا العربية... الجن الأخيار في أخبار شعراء الجاهلية

لا نتخيل اليوم الجن والشياطين إلا أشرارًا قبيحين... ولكننا اليوم نغوص في أساطير شعراء الجاهلية لنستخرج تصورًا خيّرًا لم نعتد عليه قط.
Ahmad SAATI
Samedi 02 janvier 2021
Organisateurs


الصورة هذه تمثل صورة الشياطين كما تصورهم العرب مأخوذة من كتاب البلهان من القرن الرابع عشر

 

 

كثيرا ما نشهد في الأوساط المتحدثة باللغة العربية ذكرًا للجن والشياطين، سواء من الذين يؤمنون بهم أم لا. ومنهم من يهابهم ومنهم من يسعى للقضاء عليهم أو إبعادهم. وطبعا للإسلام والمسيحية واليهودية حديث عنهم. ولكننا اليوم قررنا أن نبحث في الزمن الأوّل من حضارتنا في فترة قبل ظهور الإسلام في الجزيرة في الفترة "الجاهلية" كما يسميها مؤرخو تاريخ الأدب العربي. والمدهش أننا نجد أخبار إيجابية تصور الجن بصور مساعد كريم!

نحن نعرف أن في هذه الفترة كانت أساطير كثيرة، ولكننا لم نقم بحثًا مثيولوجيًا (علم الأساطير) كما أقامه الأوروبيون في أساطير أجدادهم. لذلك نبحث اليوم عن مفهوم الجن في أخبار الشعراء المعلقات. المعلقات قصائد طويلة ألّفها شعراء الجاهلية (أي ما قبل الإسلام) وعلّقت على الكعبة. ونستعين برسالة ماجستير للباحث عبد اللطيف بن علي بن صديق العريشي في جامعة الملك سعود.

نجد ذكرًا كثيرًا للجن في أخبار هؤلاء الشعراء، وحتى أن لكل شاعر جني خاص به! ولكل جني اسم يدعى به، وقد ذكرت هذه الأسماء في الشعر. وقد اخترع الرواة قصصًا عديدة أسطورية عن لقاء الشعراء بالشياطين، واقتران الإبداع الشعري بالشياطين المصاحبة. مثلًا شـيطان الأعشى مسحل، وشيطان امرئ القيس لافظ بن لاحظ، وشيطان النابغة الذبياني هاذر، وشيطان عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم فهو هبيد...

من الشعراء من ساعده الجن في تأليف شعره. فمثلا عبيد بن الأبرص كان رجلا محتاجًا لا يقول شعرًا ولكن عمل الجن أعطاه قدرة على إلقاء أفضل المعلقات. وهذا يعتبر عملًا قريبًا من السحر. وكذلك الأعشى التقى شيطانه مسحلًا في طريقه إلى اليمن فأنشد عليه أشعاره هو ولفت نظره لأشياء في شعره لم يقدر على تفسيرها كذكر لشخصيات يعرفها مسحل ولا يعرفها الأعشى. وما تبين من هذه القصّة الأسطورية أن مسحل هو "هاجس" الأعشى يؤلف القصائد ويلقيها في أذن الأعشى.

وحتى نجد أن هؤلاء الجن يساعدون البشر ويحفظون الوعود غير إعطائهم الشعر. ومن المألوف في كتب السير والأخبار بين الإنس والجن أن يقدم أحدهما معروفًا للآخر. فمثلًا عبيد بن الأبرص أثناء سفره في الصحراء التقى بشيطانه الذي يدعى الشجاع، بعد أن كـاد أن يهلكه العطش، فسقاه بالماء. والشجاع رد ذلك الإحسان وزاد، فرد إلى عبيد جمله وأهدى إليـه جمـلًاآخر.

والجدير بالذكر أن هذه هذه الأخبار الأسطوريّة تصور لنا الجن كسكنة الصحراء بعيدًا عن الناس (ولكن في نفس عالمنا وليس في عالم آخر) وصورت هيئتهم كالبشر ولكن أجمل حتّى وليسوا مشوهين كما هي الصورة المعهودة عنهم. ولكن طبعًا نجد أخبار أسطورية أخرى تصورهم مشوهين كما اعتادت الثقافة الدارجة اليوم، كخبر جرير بن عبد الله البجلي الذي التقى بقوم مشوهين عند الماء فقعد معهم. وظهر بينهم رجل أشد تشويها منهم اعتبروه شاعرهم الذي يلقي للأشعار في آذان الشعراء.

وطبعا فإن التحليل العلمي الحديث لهذه الأحداث الأسطورية بكشف لنا مكونات أساسيّة وتعلل وجودها. ففي كل هذه الأخبار عناصر ثابتة من الواقع المعهود: الصحراء، والليـل، والمـاء، والسـفر، والضياع، وفقدان الرواحل، وفعل المعروف، والشجاعة والمروءة. 

ومثلما بدأت من الواقع، فالميثولوجيا عادة تحاول أخذ العناصر الواقعية المعهودة وخاصة تلك التي تتسم بالغموض كالليل والصحراء وتضيف عليه المكون الأسطوري لتفسير الظواهر غير المفسّرة كالشعر الحسن وتحاول أن تعالج الهواجس الإنسانية كخوف الموت والعطش وتدخل في المفاهيم والأخلاقيات المعهودة كالمروءة. فمثلما وجدنا ميثولوجيا فيها هذه العناصر الواقعية والغموض وتفسير الظواهر ةالهواجس الإنسانية والأخلاقيات عند الغرب، نجدها في ميثولوجيا العرب. وما يبقى فقط أن نكرس جهدا لدراستها بشكل علمي.