المَوعِد

Décembre 2020

وضعَ ما استطاعَ حزمَهُ في حقيبتهِ الّتي زالَ لونُها عنْها تمامًا كَما زالَ طلاءُ هذهِ الجدرانِ الّتي احتضنتْ جسدَهُ الباليَ والبائس. حاولَ الوقوفَ ليمضيَ كَما الوقت إلَّا أنَّ قدميهِ لمْ تقويا على حملهِ؛ لثقلِ روحهِ، فباتَ والكرسيُّ الخشبيُّ الّذي يجلسُ عليهِ كيانًا واحدًا. أمعنَ النَّظرَ بانعكاسهِ في المرآةِ فضحكَ والدُّموعُ تسكنُ عينيهِ، يا للشَّماتةِ! قامَ بتحريكِ ذراعهِ؛ ليتأكَّدَ منْ أنَّهُ لا يزالُ هُنا في هَذا العالمِ، فهوَ لا يدري إنْ كانَ موجودًا حقًّا!

يجبُ عليهِ أنْ ينهضَ الآنَ وإلَّا سيتخلَّفُ عنْ الموعدِ الّذي يترقَّبُهُ منذُ سنينَ.

تمكَّنَ منْ تَمالُكِ شتاتَ قواهُ الّتي تبعثرتْ معْ كلِّ صفعةٍ صفعتهُ إيَّاها الحياةُ واستطاعَ النُّهوضَ أخيرًا. حملَ حقيبتهُ الممتلئةَ بيدهِ وما تبقَّى منْ أملٍ في قلبهِ وخرجَ منَ البابِ منْ غيرِ أنْ يلتفتَ إلى الوراءِ ولوْ للحظةٍ؛ فهوَ على يقينٍ إنْ فعلَ ذلكَ سيتغلَّبُ خوفهُ على حماسهِ وسيبقى... وهوَ لا يريدُ البقاءَ.

 

لمْ تفارقْ عيناهُ ساعتَهُ وهوَ يجوبُ الشوارعَ الفقيرةَ الّتي تحملُ في زواياها ذكرياتِ طفولتهِ وشبابهِ. فهوَ لمْ يغادرْ هذا الحيَّ قطْ، ولا حتَّى عندما أغارتْ طائرةُ الحربِ فوقَ رأسهِ أوْ عندما قرعتْ أصواتُ أحذيةِ الجنودِ على مسامعهِ سمفونيَّةَ رعبٍ أنستهُ أغانيَ الطّفولةِ الّتي اعتادتْ والدتهُ همهمتِها. لمْ يهربْ حينَها بلْ بقيَ وعلمَ بوجودِ بنادقَ تشبهُ بنادقَ الخرزِ إلَّا أنَّها تقذفُ رصاصًا قاتلاً، وأيقنَ أنَّ والدتَهُ لنْ تعيشَ للأبدِ معهُ لترعاهُ وتحضنهُ.

 

تابعَ سيرهُ وحاولَ جاهدًا ألَّا يتوقَّفَ عندَ كلِّ زقاقٍ وذكرى؛ فالوقتُ يسخرُ منهُ ويسابقهُ، يسخرُ منْ جسدهِ الهزيلِ وحركتهِ البطيئةِ ويضحكُ في وجههِ مُكشِّرًا عنْ أنيابهِ، فاعتادَ الأخيرُ أنْ ينقضَّ بسرعةٍ على ساعاتِ الفرحِ بينما يتسمَّرُ في مكانهِ غيرَ مُنقضٍّ على ساعاتِ الأسى. وأمَّا عنِ الفريسةِ فهيَ نفسُها في كلتا الحالتينِ؛ حياةُ الإنسانِ.

 

حاولَ الجريَ ولعنَ التِّبغَ الّذي أدمنهُ ألفَ مرّةٍ إلَّا أنَّهُ لمْ يلعنْ طرقاتِ الحيِّ الّتي تملأها الحفر؛ فهيَ تحملُ شيئًا منْ دعساتهِ ودعساتِ أصدقائهِ وبهجةَ الطُّفولةِ الّتي دُفِنَتْ تحتَها.

 

تابعَ الجريَ رغمَ تململِ رئتيهِ وإذْ بهِ يصلُ إلى نهايةِ الحيِّ. توقَّفَ مخالفًا بذلكَ وعدَهُ الّذي قطعهُ على نفسهِ بالاستمرارِ، ليسَ لتعبهِ بلْ لأنَّهُ ليسَ لديهِ أدنى فكرةٍ عمَّا يحملهُ العالمُ القابعُ في الجهةِ الأخرى. وها هوَ يشعرُ بتسلُّلِ شبحِ الخوفِ منْ ورائهِ ليحتلَّهُ في أيِّ لحظةِ ضعف. وبالرّغمِ منْ رؤيتهِ لشبحِ الخوفِ كثيرًا إلَّا أنَّهُ لا يزالُ يبعثُ الرُّعبَ في نفسهِ حرفيًّا. فهوَ يتذكَّرُ رؤيتَهُ في الظّلامِ، وبينَ حطامِ الحربِ، وبجانبِ جثّةِ والدتهِ، وعندَ رسوبهِ، وعندَ طردهِ من ورشةِ النِّجارةِ. إلَّا أنَّهُ لمْ يتحدَّثْ إليهِ مرّةً لسرعةِ ابتلاعهِ لهُ. حاولَ متابعةَ سيرهِ إلَّا أنَّ الشَّبحَ أصبحَ ملتصِقًا بهِ، فأغمضَ عينيهِ وتنفَّسَ عميقًا وتمتمَ بصوتٍ مرتجفٍ مَشُوبٍ بغصَّةٍ:" كُفَّ... عنْ... ملاحقتِي."

فانفجرَ الشَّبحُ ضاحكًا حتَّى دمعتْ عيناهُ، وكتمَ صوتَ قهقهته العاليةِ صوتُ ضحكةِ الوقتِ الخبيثةِ.

"أتبعكَ؟ إنِّي أُودِّعُكَ يا آدم."

 

حَدَّقَ آدمُ بالشَّبحِ حتَّى كادَ يقسمُ أنَّهُ إنسانٌ حقيقيٌّ ناطقٌ، وانعقدَ لسانُهُ عُقدةً ما بعدَها عُقدة. وجالتْ الأفكارُ في بالهِ حتَّى باتتْ تطفو فوقَ رأسه أمامَ مرأى الجميعِ. فتحَ فمهُ ثمَّ أغلقهُ، ثمَّ فتحهُ وتأتأَ بعضًا منْ كلماتِ الدَّهشةِ: "و-و-وداع؟"

"نعم، فعندما تطأُ قدماكَ خارجَ هذا الحيِّ سأختفي تدريجيًّا." ردَّ عليهِ مبتسمًا.

"ك-ك-كيف؟" سألَ وكأنَّهُ أبكمٌ!

"إنَّهُ سرٌّ ليسَ منْ شأنِي أنْ أُطلعكَ عليهِ، ولكنِّي سَأُفشِي سرًّا آخرَ: بالرّغم منْ أنَّنا التقينا كثيرًا إلَّا أنَّني أعترفُ بأنَّكَ شجاعٌ جدًّا. لستَ أنتَ وحدكَ بلْ معظمُ البشرِ الّذينَ يصمدونَ أمامَ عواصفِ الحياةِ كالأرزِ المكسوِّ بالثَّلجِ، فيبدونُ في ذروةِ هذهِ العواصفِ وكأنَّهمْ يرتدونَ معطفًا ناصعَ البياضِ. ما أغرَبكُم! "

 

همَّ بالرَّدِّ إلَّا أنَّهُ لمْ يفهمْ لماذا نعتَهُ هذا الشَّبحُ الّذي رآهُ أكثرَ منْ والدتهِ بالشُّجاعِ، وكيفَ لشبحِ الخوفِ أنْ ينطقَ؟ وكيفَ لكلامهِ أنْ يبعثَ الطّمأنينةَ في فؤادهِ أكثرَ منْ كلامِ معظمِ البشرِ الّذين صادفهمْ في سنواتِ حياتهِ؟

 

وقبلَ أنْ يحاولَ النُّطقَ قاطعَ أفكارهُ الشَّبحُ قائلًا بسخريّةٍ: "لديكَ خمسُ دقائقَ لاجتيازِ هذا الحيِّ قبلَ الموعدِ المنتظرِ، ولا تقلقْ فلنْ تصبحَ وحيدًا بلْ سترافقُ شبحًا منْ نوعٍ آخر؛ هوَ صديقٌ لِي وسأرسلُ لكَ سلاميَ معهُ."

 

انتبهَ آدمُ لضيقِ الوقتِ وانطلقَ بكلِّ عزمٍ إلى الجهةِ المواجهةِ منَ الحيِّ، إلى العالمِ الّذي يحيطهُ الغموضُ وتوأمهُ الضَّبابُ. يكسو اللونُ الرماديُّ المكانَ والرُّؤيةُ غيرُ واضحة، إلَّا أنَّهُ لا يستطيعُ التَّراجعَ!  يجبُ أنْ يعبُرَ الآنَ؛ فالسُّتونَ ثانيةٍ تمضِي كرياحِ الشِّتاءِ الّذي يمقتهُ. آهٍ كمْ تمنَّى إشعالَ سيجارةٍ الآنَ، ولكنَّ السِّتِّينَ ثانيةٍ تناقصت إلى النِّصفِّ وهوَ لمْ يعبُرْ بعدُ!

خمسة...

أربعة...

اثنان...

واحد.

"عيدُ ميلادٍ سعيدٌ يا آدم."

 

أنا أعلمُ أيُّها القارئُ العزيزُ أنَّكَ في حيرةٍ منْ أمركَ أنتَ أيضًا، لستَ تدري إنْ نجحَ آدمُ بالعبورِ أمْ لا.

فلتطمئنْ، لقدَ عبرَ عندَ السَّاعةِ الثّانيةِ عشر في منتصفِ الليلِ. وغنَّى لهُ أصدقاؤهُ أغنيةَ عيدِ ميلادهِ السِّتِّين، وقاموا بتقديمِ التَّعازِي لهُ على تركهِ حيَّ سنِّ الطُّفولةِ والشَّبابِ والرُّشدِ، وعبورهِ بنجاحٍ إلى حيِّ سنِّ الشَّيخوخةِ. ولكنْ لمْ أخبركَ يا عزيزي أنَّ آدمَ قامَ بنسيانِ حقيبتهِ عندَ نقطةِ عبورِ الحَيَّينِ، وما الّذي تحملهُ هذهِ الحقيبةُ؟ ذكرياتهِ الّتي باتتْ منسيّةً. ففهمَ آدمُ مغزى وداعِ شبحِ الخوفِ عندما اكتشفَ إصابتَهُ بالخرفِ عندَ الخامسةِ والسِّتِّينَ، فمنْ يخافُ خُسرانَ ما لا يستطيعُ تذكُّرهُ؟ وأيقنَ أيضًا منْ هوَ الشَّبحُ الجديدُ الّذي يحومُ حولهُ معْ سقوطِ كلِّ صورةٍ وذكرى وهمسةٍ ولمسةٍ، نعمْ إنَّهُ شبحُ الموتِ. فهل ينسى آدمُ يا تُرى ما تبقَّى منْ حياتهِ عندَ نقطةِ عبورهِ لسنِّ السَّبعينِ؟

 

فاطمة حسين صادق

ماستر في الترجمة - سنة أولى