حبً اللّغة العربيّة بين الإفراط المبالغ والتفريط المقصّر

Ahmad AL SAATI
Lundi 22 mars 2021
Organisateurs


إنّنا نجد في عصرنا اليوم نقيضين عندما نتحدث عن  اللّغة العربيّة. أما الرأي الأول فيتمثل في أن  أغلبيّة صارخة تتغنّى باللّغة العربيّة وتعتبرها الأفضل دون منازع وتدافع عنها بحرارة أحيانًا دون معرفة علميّة وإنما انطلاقا من مشاعر وانحياز، وهذا ما يطلق عليه تسمية الإفراط أيّ المبالغة، وأما الرأي الثاني فيتمثل في أقلّيّة صامتة اجمالًا أصابها الملل من اللّغة العربيّة وباتت تفضّل اللّغات الأجنبيّة. تطرح اللغة العربية مصاعب بسبب عوامل عدة: أولًا:  الإعراب الذي يشكل وزرًا على الطلّاب وثانيًا: قدم التقليد وثالثًا: صعوبة اللّغة الفصحى التي أصبحت غريبة عن لهجاتنا وعن حياتنا. وهذا نسمّيّه تفريطًا، أيّ تقصيرًا. وكما قال الفيلسوف اليونانيّ أرسطو: الإفراط والتفريط رذيلتان، أيّ الخلق القبيح، والفضيلة أيّ حسن الأخلاق في وسطهما.

 

ما سنقدّمه اليوم مشتقّ من معرفتنا بعلم اللّغة الحديثة، وتطبيق رؤيته لتصحيح المفاهيم الخاطئة التي أوقعتنا في الإفراط والتفريط. ولن أدخل كثيرًا في نقد التفريط فالرأي الصارخ ينتقده كثيرًا.

 

من أبرز التفريط الذي يضايقنا هو تمسّك المدارس العربيّة والطبقة المثقّفة إجمالًا بالتقاليد، من ضمنها الشعر ورفض الأدب الحديث والمجدّد. وإذا كان الأدب مرآة العصر كما يعترف كلّ الباحثبن، لا يمكننا أن تقيّد الأدب.

 

ومن أكثر التقاليد التي تضايق الطلاب وتكرّههم باللّغة العربيّة هي الإعراب. والإعراب أو النحو هو ما وضعه علماء كبار كسيبويه والخليل والكسائي ليصنعوا علمًا يساعد الأجانب على تعلّم لغة العرب بشكل علميّ منهجيّ. إلّا أن البحث العلميّ الجديد يكشف لنا طرقًا أفضل لتعليم اللّغة، دون مصطلحات وتفاصيل أصبحت تعقّد حياة الطّلاب كالرّفع والنّصب. فاللّغة يجب أن تفهم على السليقة من التّعوّد والانغماس والقراءة والاستعمال كما تعلّمها سيبويه نفسه. وهذا ليس رأيي أنا بل رأي النّحوي الشّهير ابن منظور الذي أراد تجديد النحو والباحث الشّهير المصريّ شوقي ضيف -- وكان رئيس مجمع اللّغة العربيّة المصريّ.

 

حبً اللّغة لا ينبغي أن يأتي معه حبً أعمى للتقاليد والنحو. فكثير من عظماء الأدب المعاصر كنزار قبًاي ومحمود درويش خرجوا عن التقليد ولم يقلّل هذا من مكانتهم.

ثانيًا، إن كلّ شعب إجمالًا يعظّم لغته، ويعتبرها الأجمل. (وهنا نقول أن الجمالية يصعب تعميمها موضوعيًّا) ولكن ما يحدث عندنا من إفراط هو أننّا نعتبرها أغنى اللغات وبعضنا يعتقد أنها حتّى أصل كلّ اللغات! 

 

علم اللّغة يدرك أن هذا خطأ، حيث أنه يستحيل أن تكون أيّ لغة سليمة من التغيّر بإستمرار. واللاتينية مثلًا التي كانت تتمتع بنوع من القدسيّة في أوروبا الكاثوليكية والرومانيّة زالت وأضحت لغات عدّة كالفرنسيّة والإيطالية لم يعد متكلّموها يفهمون بعضهم! لا يمكن لأيّ لغة أن تكون أصل كلّ اللغات لأنّ لغة كهذه يجب أن تصمد أمام آلاف السنين من التغيّر. ثمّ أنّ علماء اللّغة أيقنوا تطوّر اللّغة العربيّة بلهجاتها من أوّل النّقوش ممّا قبل الميلاد إلى يومنا وأعادوا بناء أصل اللّغة العربيّة وسائر اللغات الساميّة (كالعبريّة والآراميّة) وليس في هذا من جدال! ثمّ أنً من اللغات الأخرى ما هو أعقد وأقدم وأغرب من أن تستطيع اللّغة العربيّة إنجابها. والحقيقة أنّ أغلب الشعوب تقول أنّ لغتها هي أصل كلّ اللغات. لأنها لا تعرف اللغات الأخرى إلا بشكل سطحي، وهي تريد سمو لغتها لأنّها مكوّن حضاري يميّزها. نجد مثل هذا عند بعض الصرب واليونانيين والعبرانيين والهندوس. 

 

ومن أكبر أشكال الإجحاف في رأيي بحق اللغّة العربيّة أن نرفض نصفها: أنّ نرفض العاميّة. علم اللّغة الحديث يخبرنا بقيمة اللّغة العاميّة، إذ هي الإنتاج الحيّ الطبيعيّ اليوميّ. بالمقابل، اللّغة الفصحى جامدة، ويعتبرها المصنِّف اللغوي العالمي إثنولوغ لغة مصطنعة ومائتة لا يتحدثها أحد في الحياة اليوميّة. بالمناسبة، ليست الفصحى نفسها لغة القرآن، بل إعادة بناء. وأبسط دليل في "كان". في القرآن "وكان الله يحبً المحسنين" تعني أنّه لا يزال يحبّهم، ولكن في الفصحى المستعملة "كان أخي هنا" تفترض أنّه لم يعد هنا.

أنا ضدّ التّفريط باللّغة العربيّة ورفضها. أنا أحبً اللّغة العربيّة، فمن باع حضارته وثقافة أجداده، لن يتبناه غيره وسيبقى بلا هوية متخبّطًا في العالم. ولكن عليّ كعالم لغة وفيلسوف أن اقترح الفضيلة الوسطى: حبّ اللّغة العربيّة بين الإفراط والتفريط. وعلينا تطبيق هذا في تناولنا لها وتعليمها وفق المعايير الحديثة.