توتل لمجلة الأمن: الجامع المشترك الأساسي بين زمن المجاعة الكبرى واليوم هو إهانة الشعب اللبناني

تشرين الثاني 2022

أجرت الصحافية الزميلة ميرنا الشدياق مقابلة مع مدير قسم التاريخ في جامعة القدّيس في بيروت البروفسور كريستيان توتل نشرتها مجلة الأمن في عددها رقم 109- تشرين الأول 2022.

تحدّث توتل عن المجاعة التي أصابت لبنان في العام 1914 والكتاب الذي أصدره في 2014 ودور الجامعة وقسم التاريخ في تشييد نصب يذكّر اللبنانيين بحدث جلل في تاريخهم وبإسقاطاته الحاضرة.

هنا نصّ المقابلة:

 

تسببت المجاعة الكبرى (1915-1918) بوفاة ثلث سكان جبل لبنان. وقد ساهمت عوامل عدة في اشتداد تلك المأساة منها: الحصار البحري الذي فرضه الحلفاء في البحر الابيض المتوسط، غزو الجراد للمحاصيل الزراعية، انتشار الاوبئة، والحظر الذي فرضه العثمانيون على المواد الغذائية. استمرت هذه المحنة ثلاث سنوات ولم تصل إلى نهايتها الا بعد استسلام الالمان وهزيمة العثمانيين

 

عندما قرأنا عن المجاعة الكبرى في كتاب التاريخ ضمن المنهج المدرسي، لم نتخيل ونحن في سن صغيرة، نفتقر فيها إلى الثقافة - او ربما لم تعط الحيز المناسب للتخيل- حجم الفاجعة التي عاشها اجدادنا بين اعوام 1915-1918، ولم تبق في ذاكرتنا الا صورة اسراب الجراد التي غطت سماء لبنان واكلت الاخضر واليابس.

ذكريات اخبرنا عنها اجدادنا بخجل، اذ انها لم تكن ذكريات بطولية ضد احتلال. قصصهم كانت مجبولة بالموت على الطرقات، او ببيع اراضيهم وبيوتهم، او بيع اجساد بناتهم ونسائهم مقابل حبة ليمون او كيس طحين. فيما تجار الهيكل في كل مكان وزمان يستغلون الام الناس وضعفهم. لقد مات اجدادنا جوعا. وبدل ان يهتم اللبنانيون بالحركات التحررية ومكافحة فساد حكامهم كان همهم سد جوع ابنائهم، ولا شك في ان المجاعة ساعدت العثمانيين في مخططاتهم.

واقع عكسه جبران خليل جبران في قصيدته "مات اهلي" عندما كتب: "لم يمت اهلي متمردين، ولا هلكوا محاربين، ولا زعزع الزلزال بلادهم فانقرضوا مستسلمين. مات اهلي على الصليب. ماتوا واكفهم ممدودة نحو الشرق والغرب، وعيونهم محدقة بسواد الفضاء. ماتوا صامتين لأن اذان البشرية قد اغلقت دون صراخهم، ماتوا لانهم لم يحبوا اعداءهم كالجبناء ولم يكرهوا محبيهم كالجاحدين، ماتوا لانهم لم يكونوا مجرمين، ماتوا لانهم لم يظلموا الظالمين، ماتوا لانهم كانوا مسالمين، ماتوا جوعا في الارض التي تدر لبنا وعسلا. ماتوا لأن الافاعي ابناء الافاعي التهموا كل ما في حقولهم من المواشي وما في احراجهم من الاقوات".

ولأنه يقال ان اللبنانيين يعانون فقدانا جماعيا للذاكرة، بقيت هذه الفاجعة طي التجاهل لوقت طويل واستكتر السياسيون على 200 الف ضحية ماتوا جوعا، يوما وطنيا يذكر اللبنانيين بالمأساة، ومن المتعارف عليه ان من لا يتذكر ماضيه محكوم عليه بتكراره.

في العام 2014 نفض مدير قسم التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة القديس يوسف الدكتور كريستيان توتل، الغبار عن وثائق وصور، اضافة إلى مراسلات بين الاباء اليسوعيين ومخاتير والاهالي عن تلك الايام السود، كانت محفوظة في ارشيف الجامعة "ليبقى مين يخبر"، وجمعها في كتاب بعنوان: "الشعب اللبناني في مآسي الحرب الكبرى 1915-1918"، ومن ثم شيد نصبا تذكاريا للمجاعة ضمن ساحة صغيرة مقابل جامعة القديس يوسف - المتحف، هو عبارة عن شجرة بقاعدة سوداء تتفرع منها اغصان، اوراقها ذهبية اللون على شكل كلمات بالخط العربي ترمز إلى عبارات كتبها من عاصر زمن المجاعة، مجسدا معاناة اللبنانيين بشهادات اليمة تم التعبير عنها بكتابات.

تسلل اليأس إلى نفوس اللبنانيين، كان همهم تأمين معيشتهم، ارتفعت الاسعار ارتفاعا جنونيا وانهارت العملة، تجار احتكروا المواد الاساسية... هو وصف لمشهد في زمن المجاعة يشبه إلى حد ما يوميات مواطن لبناني اليوم.

في هذا السياق، اجرت "الامن العام" حوارا مع الدكتور توتل الذي تحدث عن محطات احياء ذاكرة معاناة اجدادنا في زمن المجاعة الكبرى في ظل تعقيدات غير مفهومة.

 

* تعملون منذ سنوات على احياء ذاكرة المجاعة الكبرى، ما الاسباب والاهداف؟

- بدأ المشروع في العام ٢٠١٤، في الذكرى المئوية للحرب العالمية الاولى، عندما نشرت كتابا عن الحرب العالمية الاولى ومأساتها في لبنان، ونظمت معرضا يتضمن اكثر من 500 لوحة ارشيف عرضت في لبنان وفرنسا وسويسرا والمكسيك. وفيما مات ثلث الشعب اللبناني من الجوع، لا احد يذكرهم ولا وجود لأي مساحة لهم في لبنان. فبدأت العمل على اقامة نصب تذكاري لاحياء الذاكرة من خلال عمل مشترك بيني وبين فريق عمل من جامعة القديس يوسف بالاشتراك مع رمزي توفيق سلامة، ونظمت مباراة شارك فيها عدد من الفنانين، والفنان الذي قدم المشروع الاقرب إلى نظرتنا كان الفنان يزن حلواني.

 

* النصب قائم اليوم ولكن لماذا لم يتم تدشينه؟ 

- لم يتم تدشينه في العام 2018 لأن تعقيدات سياسية حالت دون ذلك. النصب موجود في بيروت، ولا اريد تدشين ساحة المجاعة في ايام نحن نجوع فيها، مما يشكل نوعا من الاستفزاز للشعب اللبناني والبيروتي تحديدا. كان هدفنا تدشين الساحة في العام ٢٠١٦ الا انه بسبب تدخلات سياسية وضغوط، تم تأجيل المشروع. علما ان النصب اصبح شرعيا بصرخات الجوع، وبدموع اهالي الذين ماتوا جوعا في المجاعة الكبرى. النصب ليس بحاجة إلى تدشين، ولا احد في الدولة يستأهل تدشين ساحة لمئتي الف شهيد. الساحة موجودة امام جامعة القديس يوسف في منطقة المتحف على ارض تابعة لبلدية بيروت، وقد نفذ المشروع بالتعاون مع بلدية بيروت ومحافظ المدينة. انا المؤتمن على هذا النصب بصفتي مدير قسم التاريخ في الجامعة، وقد تعرض لسرقة لوحات نحاسية منه كانت قد وضعت عليه ودونت عليها بعض النصوص التفسيرية.

 

* يعيش لبنان اليوم مأساة تشبه ببعض مسبباتها تلك التي سادت في زمن المجاعة الكبرى، ما هي ابرز نقاط التشابه؟  

- في تلك الفترة كان العدو خارجيا، الاتراك تحديدا وجمال باشا المعروف بالسفاح، واليوم العدو نوعا ما هو خارجي متمثلا ببعض الدول التي لا تريد ان يتنفس لبنان وتستعمله كمنصة لاطلاق صواريخها على العالم كله. يريدون حل مشاكلهم على حساب لبنان.

كذلك في زمن المجاعة كان هناك احتكار التجار الذي جوّع اللبنانيين بشكل هائل. احتكروا الحنطة والطحين ثم قاموا ببيع هذه المواد باسعار خيالية. اليوم نعيش ظروفا مماثلة، والاحتكار واضح في حياتنا اليومية.

اللبنانيون كانوا ينتظرون على الشاطئ وصول بواخر المساعدات من المغتربين اللبنانيين الاتية من الولايات المتحدة الاميركية التي لم تصل وبقيت في البحر، ثم رميت المساعدات منها لانه لم يسمح لها بالوصول.

اليوم المشهد نفسه. اللبنانيون ينتظرون يوميا، كانتظار وصول بواخر البترول لتفرغ حمولتها لتشغيل معامل الكهرباء مثلا. يا للاسف ما زلنا نعيش المواقف نفسها.

في زمن المجاعة الكبرى، الجراد ضرب لبنان عام ١٩١٥ واكل الاخضر واليابس كغيمة سوداء اجتاحت لبنان. انا اعتبر، ولسوء الحظ، في ٤ آب ٢٠٢٠ عامل خارج عن ارادتنا غطى سماء لبنان كغيمة سوداء، هو انفجار مرفأ بيروت الذي شكل فاجعة للبنانيين عموما والبيروتيين خصوصا. البعض يتقبل هذه المقارنة فيما البعض الاخر يقول "تذكرنا بالماضي ولا نريد ان نتذكر المأساة"، لذا الموضوع مفتوح للنقاش.

الفارق الوحيد بين الماضي واليوم هو انه بين 1915-1918 كان المسيحيون اكثر المتضررين من المجاعة الكبرى لأن ٩٥ في المئة من الضحايا كانوا من المسيحيين، اما اليوم فمن يجوع هو الشعب اللبناني كله، بكل طوائفه وفئاته. اليوم لسنا نعيش في مجاعة بل في جوع، اليوم هناك اناس جائعة ولكنها ليست ميتة من الجوع.

 

* كانت هناك محاولات لاقرار قانون في مجلس النواب يكرس يوما لذكرى المجاعة الكبرى، لماذا لم يقر؟

- حاولت جامعة القديس يوسف عبر قسم التاريخ طرح موضوع اقامة يوم وطني للمجاعة الكبرى، الا ان الموضوع لا يزال ضائعا بين الكتل النيابية.

نحن نختلف على اتفاق الدوحة واتفاق الطائف واستقلال ٤٣ ودولة لبنان الكبير والحرب اللبنانية واتفاق القاهرة. نختلف على مجازر ١٨٤٠ و١٨٦٠ وعلى القائمقاميتين. نختلف على كل  الامور في تاريخنا، فيما الامر الوحيد الذي نتفق عليه هو المجاعة الكبرى ولا احد ينكر حصولها. فهل من الممكن ان يحيد النواب عن هذا الموضوع ويتركونه للمؤرخين اصحاب الاختصاص والاكاديميين، ويتم تاليا سحبه من التجاذب السياسي لأنه عامل جمع لا تفرقة.

هنا اؤكد ان هناك جامعا مشتركا اساسيا بين زمن المجاعة الكبرى واليوم، يتمثل في اهانة الشعب اللبناني. في زمن المجاعة كان المطلوب تركيع هذا الشعب وتجويعه حتى يخضع لأمر الاتراك، اما اليوم فهناك تجويع للشعب اللبناني لكي يخضع لاجندات خارجية.