في ذكرى تأسيس الجامعة اليسوعية الـ150 تحدّث رئيسها البروفسور سليم دكّاش اليسوعيّ إلى جريدة النهار اللبنانيّة في مقابلة أجراها معه الصحافي شربل بكاسيني ونشرت في النسختين الورقيّة والإلكترونيّة في 20 آذار 2025.
- كيف تلخّص دور الجامعة في المشهد الثقافي اللبناني منذ تأسيسها؟ هل حافظت على هويتها الفكرية والثقافية؟
تطورت المساهمة الثقافية للجامعة بين الأعوام 1875 و1928 في الاتّجاهات التالية:
1 (دعونا نتحدث عن أهمّ ما برع فيه اليسوعيون في هذا المجال، مثل علم الآثار واكتشاف المواقع التاريخية، وقد برع العشرات من اليسوعيين فيه ، مثل زوموفن، وجالابرت، وبودبارد، وتالون وغيرهم الكثير... وأهم الاكتشافات معروضة في متحف الجامعة لماا قبل التاريخ اللبناني المفتوح للطلاب والزوار بشكل يومي. وقد شاركت الجامعة في عدد من المشاريع الأثرية بين عامي 2010 و2019، في منجز، ومنطقة حمص، واللبوة والبقاع. نقوم حاليًا بتطوير دبلوم جامعي في علم الآثار لإعداد جيل جديد من علماء الآثار.
2 (كان التصوير الفوتوغرافي أحد التخصصات المفضلة لحوالي ثلاثين من اليسوعيين بين 1867 و 1920 حيث لدينا كنز من عشرات الآلاف من الصور (حوالي 60,000 صورة على الزجاج قبل عام 1900). وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، وبالتعاون مع مؤسسة بوغوسيان، أنشأنا مكتبة صور حديثة لرقمنة وتصنيف الـ 400,000 صورة أو نحو ذلك التي تحتويها هذه المكتبة الآن. على سبيل المثال، حصلنا مؤخرًا على أرشيف فاروجان المصور الأسبق لجريدة النهار (صور فوتوغرافية خلال الثلاثين عامًا المجيدة)، والتي تتضمن صور دموع فيروز والأديب شحاده ي يأكل كتابًا.
3 ( من الملامح الثقافية التي طورتها الجامعة اقتناء المخطوطات العربية والسريانية والإثيوبية والأرمنية بين سنة 1885 وسنة 1928، سنة وفاة الأب لويس شيخو مدير المكتبة وجامع المخطوطات الرئيسي ومدير مجلة المشرق التي تأسست سنة 1898 وما زالت تصدر. وقد شهدت هذه الفترة نشر مئات المؤلفات وآلاف الصفحات عن الأداب والعلوم العربية. وبالمثل، تركت مجلة ”المزيج “Mélanges ومجموعة ”الأبحاث العربية والإسلامية“ بصماتها على تاريخ البحث العربي والإسلامي. كما تركت المكتبة الشرقية بصماتها على الاستشراق حيث كانت الممر الاجباري للعديد من المستشرقين.
(4إن أهم مساهمة هي تعزيز الثقافة اللبنانية التي تتمحور حول دستور الكيان اللبناني. نشر الاباء لامنس ومارتن وإده وآخرون منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر أبحاثا عن حدود لبنان الحالي، باعتباره متميزًا عن سوريا. وقد افترض هذا الأمر استقلال لبنان الكبير، وكان هذا اليسوعي أو ذاك في باريس خلال مناقشات فرساي لدعم إنشاء مثل هذه الدولة. ولم يكن أحد رموز لبنان الناشئ الذي صاغ أسس الدستور اللبناني في العام 1926 سوى ميشال شيحا، وهو من متخرجي الجامعة اليسوعية . ولطالما دعمت الجامعة اليسوعية في بيروت انشاء الدولة اللبنانية، سواء من خلال مطالب طلاب كلية الحقوق في العشرينات أو من خلال تعيين خريجي جامعتنا على رأس إدارات الدولة الناشئة. هذا التقليد مستمر حتى يومنا هذا، ونحن مصممون على أن نبقى حاضرين في هذا المجال.
- كيف ساهمت الجامعة في تشكيل النخبة الفكرية والأدبية والإعلامية في لبنان؟
أنشأت الجامعة كليات في مرحلة مبكرة جدًا كان لها دور فعال في خلق نخبة مثقفة لعبت دورًا في الحياة اللبنانية، سواء قبل الاستقلال أو بعده. وكان هناك المدرسة الإكليريكية في غزير عام 1843، التي قامت بتدريب الكوادر الإكليريكية للكنيسة على يد العشرات والعشرات من اليسوعيين الذين قدموا ليس فقط من فرنسا بل من جميع أنحاء أوروبا. حتى عام 1852، كانت اللغة الإيطالية هي لغة الدراسة ثم الفرنسية، وذلك جزئياً لأن فرنسا كانت قوة لها كلمتها في المنطقة وجزئياً لأن منطقة لبنان/سوريا اليسوعية كانت أتبعت لمقاطعة ليون اليسوعية. كان البطريرك الحويك تلميذاً لليسوعيين في غزير، فأرسلوه إلى روما، حيث رأوا فيه مشروع قائد ديني ووطنيً.
بعد غزير ، أصبحت الإكليريكية كلية اللاهوت والفلسفة في بيروت التي وافق عليها الكرسي الرسولي عام 1881 . وبعد ذلك مباشرة، أنشئت كلية الطب والصيدلة التي درّست مئات الأطباء والصيادلة بين 1883 و1914، وهي السنة التي أغلق فيها العثمانيون الجامعة وصادروا ممتلكاتها . وكان تأسيس الكلية الشرقية لحظة مهمة جداً، إذ كانت تُدرّس فيها جميع الاختصاصات الشرقية، من اللغات إلى التاريخ وعلم الأرقام وقراءة الكتابا ت القديمة. في العام 1913، عشية الحرب، تأسست كليتان رئيسيتان هما الحقوق والهندسة، اللتان درّستا وحدهما جميع المحامين والمهندسين في لبنان والمنطقة حتى العام 1955.
مما لا شك فيه أن المكتبة الشرقية لجامعة القديس يوسف كانت المحور الذي التقى فيه العديد من المثقفين من لبنان والمناطق العرتبية والمستشرقين الذين ميزوا بعملهم للنهضة العربية. دمرت المكتبة مرتين خلال الحرب اللبنانية ثم بسبب انفجار ميناء بيروت ،وقد ولدت هذه المكتبة من جديد من الرماد وتجددت مهمتها في الترحيب بالمثقفين من جميع المشارب وهي أيضا تحتوي العشرات من أرشيفات الصور الفوتوغرافية من البسوعيين أولا وكذلك أرشيف فاروجان ومجموعة كاريكاتور ديران عجميان والأدبية مثل أرشيف إميلي نصر الله وغيرها العديد من رجالات المسرح, نحن لم نتوقف في عز الاضطرابات والأزمات عن متابعة رسالتنا الثقافية عبر الجامعة لأنها رسالة مقاومة بالذاكرة الثقافية.
- الجامعة منذ تأسيسها، وبرئاسة البروفيسور سليم عبو، أدّت دوراً سياسياً مهماً. ماذا تقول عن الدور الذي اضطلعت فيه بالمشهد السياسي اللبناني؟
لقد لعب الأب سليم عبو دورًا حاسمًا إلى جانب البطريرك نصرالله بطرس صفير في مقاومة الاحتلال السوري في لبنان. وساهم إخلاصهما في زعزعة السيطرة السورية على البلاد. بالنسبة للأب عبو، فإن جامعة القديس يوسف (USJ)، نظرًا الى تاريخها وارتباطها العميق بالهوية اللبنانية، لم يكن بإمكانها أن تكتفي بأن تكون مجرد مراقبة للأحداث. بل كان عليها، وفقًا له، أن تلعب دورًا فعالًا من خلال المقاومة الثقافية، مدافعة عن قيم الحرية والعدالة . موقف الأب عبو كان ردة فعل مؤصلة في علاقة الجامعة الأصيلة بديمومة الكيان.
لقد تبنيتا نحن أيضا هذه الرؤية، مع الاعتراف بأن السياق قد تغير: البطريرك صفير لم يعد بيننا، والقوات السورية قد غادرت لبنان. ومع ذلك، فإننا نؤكد أن دور جامعة القديس يوسف يبقى دون تغيير ولا تزال المقاومة الثقافية ضروريًة والتشديد على سيادة الدولة هو من المسلمات ويبدأ بأن سكون الأنسان سيدا على نفسه ومصيره وبالتالي لا سيادة من دون حرية . فقد حرص الرئيس الحالي للجامعة، منذ 12 عامًا، على إبراز هذا الدور للجامعة كمؤسسة مقاومة على عدة مستويات :
اولا :في خطاباته السنوية لمناسبة عيد الجامعة، أصر ويصر على ضرورة التغيير السياسي والمحاسبة ، منتقدًا فساد النظام، والأزمات الأخلاقية والسياسية والمالية وحتى التربوية، وداعيًا إلى الشفافية وسياسة تركز على الصالح العام، بعيدًا عن الاصطفافات الطائفية والمذهبية.
هذه الرؤية للجامعة كفاعل ملتزم في المجتمع، حاملًة رسالة إصلاح ومقاومة ثقافية، تبقى ذات صلة. وهي تعكس فكرة أن المؤسسات التعليمية العليا ، خاصة في سياق مثل لبنان، لديها مسؤولية تتجاوز التدريس الأكاديمي: يجب أن تكون فاعلة في التغيير والتحول الاجتماعي.
ثانيا : لم نتردد في عام 2019 في الانضمام إلى ثورة 17 تشرين الأول من خلال نشاطات تثقيفية على الأرض استمرت لعدة أسابيع، بهدف التوعية والإرشاد، وتكوين كوادر قادرة على تحمل أعباء قيادة البلاد. ولم نتردد في إصدار بيان مشترك مع الجامعة الأمريكية في بيروت (AUB) لإدانة ما كان يحدث، وتسليط الضوء على النقاط الإيجابية للثورة، وللتأكيد على استعدادنا للتعاون مع السلطات من أجل الخروج من الأزمة. ولقد أثار هذا الموقف ردة فعل غاضبة من بعض الأوساط الا اننا تحملنا ذلك اكراما لمستقبل بلادنا.
ثالثا : نحن مؤسسة أكاديمية، ومؤسسة مثل مؤسستنا يجب أن تعمل على مشاريع طويلة الأمد من أجل استدامة الكيان اللبناني لا أن تكتفي بالخطابات التي يمحوها الزمن في غالب الأحيان . في هذا السياق، قمنا بتأسيس "مرصد الوظيفة العامة والحوكمة الرشيدة" في عام 2016، والذي نظم حتى يومنا هذا عشرات الندوات والدراسات حول واقع الإدارة العامة اللبنانية بمشاركة أفضل الخبراء اللبنانيين والأوروبيين. وقد تناولنا جميع القضايا التي تهم المجتمع.
كذلك، قامت كلية الحقوق والعلوم السياسية بالإضافة إلى معهد العلوم السياسية بتنظيم عشرات المؤتمرات والندوات التي تناولت جميع الأزمات اللبنانية: الأخلاقية، والسياسية، والمالية، والتعليمية.
و لقد حرص رئيس الجامعة دائمًا على أن يكون حاضرًا في هذه المناسبات لتوجيه كلمات قوية حول هذه المشكلات، مؤكدًا على الموقف الثابت للجامعة بشأن ضرورة التحول الاجتماعي وإيجاد حلول تحمي دافع الضرائب ومن خسر مدخراته في المصارف. كما تم إنشاء "أكاديمية التربية على المواطنة" منذ العام الماضي لتكوين كوادر تؤمن بالمواطنة اللبنانية وتسعى إلى تحقيقها أينما وجدت وقد تم تخريج الدفعة الأولى منها.
رابعا : في هذا السياق، يُجسد البرنامج السنوي #للشباب من أجل الحوكمة# الذي تأسس في كلية الحقوق ، بالتعاون مع جامعات أخرى، التزام الشباب تجاه "الشأن العام" . (res publica) يقوم هذا البرنامج بتهيئة الطلاب، خاصة في مجالات القانون والهندسة وعلوم الكمبيوتر، لفهم الإدارة العامة اللبنانية والمساهمة في إصلاحها. وقد كانت نتائج العامين الماضيين واضحة ودالة. أود أن أحيي جهود 50 طالبًا وطالبة في عام 2023، الذين عملوا بحماس وكفاءة في خدمة تسجيل المركبات اللبنانية، وقاموا بتطوير برنامج رقمي لإدارة أنشطة هذه الخدمة الحيوية المعروفة بمشاكلها وسمعتها السيئة.
كما أود أن أحيي أولئك الذين، في عام 2024، بدعم من وزير البيئة السابق السيد ناصر ياسن ووزارة الدفاع، قاموا بتطوير خريطة رقمية للبلاد وبرنامج كمبيوتر لتصنيف جميع الكسارات والمحاجر التي يبلغ عددها أكثر من 2000، والتي منها واحدة فقط قانونية، مما كشف حجم الدمار البيئي. وقد مكّن ذلك المحاكم من إصدار أوامر بدفع الرسوم من قبل الكسارات وإغلاق بعضها، مما يساهم في استعادة العدالة وحماية بيئتنا.
وفي مجال حماية الطبيعة، لا يسعني إلا أن أذكر الحملة الرائعة التي تم تنظيمها على مدى العقد الماضي من قبل مختبرات كلية العلوم ومنظمة جذور لبنان ، والتي ركزت على حماية التنوع البيولوجي وزراعة آلاف الأشجار في الجبال اللبنانية.
واللائحة تطول……. في الواقع، أود أن أضيف نقطة حول دور الجامعة في تعليم الديمقراطية لطلابها، الذين هم مواطنو وقادة المستقبل. لقد أنشأنا "مجلسًا عامًا للطلاب" منذ ثلاث سنوات يمثل جميع الطلاب وأصبح هيكلًا للحوار والبناء المشترك لصالح المؤسسة ولصالح كل طالب. هذه الطريقة تؤكد مقاومتنا الثقافية والسياسية، حيث تُعد الديمقراطية وممارستها عنصرًا أساسيًا فيها.
- كيف لعبت الرهبنة اليسوعية دوراً في النهضة الثقافية في لبنان عبر الجامعة؟
100,000 خريج من الجامعة، هذا رقم لا يحتاج إلى الكثير من التعليق. كل واحد منهم هو سفير للجامعة، سفير للكفاءة، والولاء، واحترام التعددية، والودية. تسعى الرهبنة اليسوعية إلى تكوين أشخاص يكونون "أشخاصًا من أجل الآخرين ومع الآخرين"، كما تريد أن يحقق كل طالب أقصى إمكاناته ويجسدها. هذا ما نسميه "الماجيس" (Magis)، أي المزيد... وبالطبع، فإن الحصول على الشهادة، الشهادة الجيدة، هو الهدف النهائي للدراسات، ولكن الإشعاع الحقيقي يكمن في وضع ما لدينا من ثقافة وكفاءات في خدمة الآخرين، وخاصة وطننا، لبناننا وهّذا من أهداف الرهبنة.
- كيف تنظرون إلى العلاقة بين الجامعة والمجتمع اللبناني على المستوى الثقافي والديني؟
من الطبيعي أن نقول إننا، مثل الرهبنة اليسوعية، مهمتنا هي تعزيز الثقافة وخاصة الروحانية. منذ تأسيسها في أوروبا، أرادت جمعيتنا أن تكون في خدمة المجتمع، المجتمع بأكمله. لا إقصاء ولا تمييز، وميثاق جامعتنا يقول ذلك بوضوح. على سبيل المثال، لقد أنشأنا مسارًا دراسيًا مخصصًا للأشخاص الذين يعانون من إعاقات ذهنية ونفسية، لنؤكد إلى أي حد نحن في خدمة المجتمع بأسره.
لدينا مرشدية روحية (aumônerie) في الجامعة تخدم المسيحيين، ولكن لا شيء يمنعها من استقبال غير المسيحيين أيضًا، لأن الأساس هو الترحيب بالجميع دون استثناء. في أنشطة العمل الخيري، يلتقي الجميع معًا، لأن هدفنا هو تقريب الناس من خلال الحوار والمعرفة المتبادلة. هذا يمثل تحديًا وفي نفس الوقت فرصة. واحيانا الغير مسيحيين يبادرون هم أيضا بالأول يقدمون على مبادرات لعمل الخير. ونحن نشجعها.
ونحن نركز، في الجامعة اليسوعية، على تعزيز القيم الخاصة بجامعتنا، المستوحاة بشكل كبير من قيم اليسوعيين. هذه القيم تشجع على الانفتاح، والحوار، والخدمة، والنبل الخلقي والالتزام بالصالح العام، مما يعزز روح العيش الواحد والتفاهم بين جميع أفراد المجتمع الجامعي، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو الثقافية.
حتى خلال حرب لبنان، تم تدمير أو إتلاف جميع حرمنا الجامعية في بيروت، وكان الوصول إليها صعبًا. ومع ذلك، استقبلنا المجتمع بترحاب في أكثر من منطقة خارج بيروت لتمكيننا من مواصلة رسالتنا. اليوم، أكثر من 6000 طالب يواصلون دراستهم بفضل نظام المساعدات المالية والمنح الدراسية، وهو ما يشكل ثلث ميزانيتنا. هدفنا في ظل الأزمة الحالية هو إعادة بناء الطبقة الوسطى عبر التضامن مع الأكثر حاجة، وهذه الطبفة التي تُعد عماد بلدنا هي في طريقها إلى الهجرة...
المقاومة الثقافية، المسؤولية الاجتماعية، والتحول الاجتماعي هي الأركان الثلاثة لعملنا و رسالتنا.