الطبيب اللبناني بول قشوع رئيسًا لقسم جراحة القلب المفتوح في فرنسا

الاثنين 27 تموز 2020
Organisateurs


كتب جورج عبيد في موقع ليبانون فايلز 

الدكتور بول الياس قشّوع ابن قريتي سوق الغرب سيتبوّأ في شهر أيلول المقبل رئاسة جراحة القلب المفتوح في مستشفى جورج بومبيدو فرنسا مكان البروفسور آلان كاربنتييه Alain Carpentier جرّاح القلب العالميّ.
في اللحظات السوداء والعواصف الهوجاء التي تجتاح لبنان، يجيء هذا الخبر المفرح ليزيدنا صلابة وقوّة ويمنحنا الرجاء، مع حزننا على خسارة خلاصة المبدعين والخلاّقين في لبنان. لكنّ الحزن يؤول إلى فرح حين تتسع الرسالة اللبنانيّة بمساحتها فتأبى الاختناق وتنقل لبنان الصغير بحجمه الجغرافيّ والكبير بتراثه وفكره إلى الخارج ليذوقها من جديد بأصولها الجوهريّة فيدرك أنّها قادرة على أن تكون مساحة ضياء على مدى الكون كلّه.
أن يكون بول قشّوع في هذا الموقع فهذا هو الإنجاز بعينه المضاف إلى مجموعة إنجازات حقّقها لبنانيون أقحاح في العالم بدءًا من لبنان. إنّه الغنى الذي لم يفهم بعده لبنانيو الداخل، حتى ولو فرحوا به واغتذوا من وضعيته. فباريس مليئة بمبدعين لبنانيين على كافّة الأصعدة، من أمين معلوف إلى الأب يواكيم مبارك إلى وليد عقل إلى بشارة الخوري إلى فينوس الخوري غاتا وصولاً إلى بول قشّوع في ميدان قسم القلب المفتوح في باريس. وعلى الرغم من ذلك لن ننسى بأنّ لبنان في ميدان الطبّ كما في العلوم والآداب كان مشعًّا، وتحوّل بفعل تلك الإبداعات الطبيّة إلى مستشفى الشرق والغرب. يكفي ذكر الدكتور سامي عبيد في مجال الجراحة العامّة فيعود العالم إلى تاريخ مشرق وزمن جميل مثّله هذا الجرّاح العظيم على مدى الشرق كلّه من الجامعة الأميركية في بيروت وصولاً إلى الدكتور منير عبيد في مجال جراحة القلب المفتوح وقد أضاء عمله على مدى المشرق كلّه من المستشفى عينه من دون أن ننسى أطباء كبارًا مرّوا في تاريخ الطبّ المعاصر والحديث من أمثال الأطباء جو حاتم، سمير علم، وليد غرز الدين، إبراهيم داغر، أنطوان غصين، إسكندر جحا، جورج ربيز...
أهميّة تعيين بول قشوع في هذا الموقع لا تكمن في هويته الوطنيّة أو الدينيّة، بل في كفاءته الطبيّة والعلميّة وفي التزامه المطلق بحياة الإنسان كإنسان. الاجتهاد الشخصيّ الذي حباه الرجل هو المدماك الأوّل والعماد الجوهريّ لظهوره على بهاء مشعّ. لا ينفي الاجتهاد الشخصيّ عند الأشخاص القيمة الوطنيّة المنتعشة بارتباطها بما هو شخصيّ. ذلك أن موقع الارتباط يعمق ويرسخ تدريجيًّا ليتحوّل إلى ثورة وطنيّة بالمعنى العلميّ، وإلى ثروة علميّة بالعمق الوطنيّ. اللبنانيون بصورة خاصّة والمشارقة بصورة عامّة عاشوا البذل فالتمعوا، وصلوا الليل بالنهار حتى أضاءوا. الوطن بحاجة إلى ضيائهم لينمو ويسمو. هؤلاء لم يوجدوا ليعيشوا على قارعة الطريق، أو على هامش الأزمنة، بل جاهدوا وناضلوا ليقتحموا التاريخ فيصيروا جزءًا منه، أو يكبر التاريخ ويحفل بإنجازاتهم وإبداعاتهم. هل ينسى تاريخ الطبّ في العالم كلّه الدكتور مايكل دبغي؟ أهمية الأطباء أنهم حاملوا الحياة بالشفاءات، والمؤمنون الكبار منهم مدركون بأنّ يد الرب مشبوكة بأياديهم وهي المحرّكة للمبضع حتى يخرج المرضى إلى الدنيا معافين.
ليس بول معصومًا عن الحقيقة الإيمانيّة، وقد ذاقها مع ذويه منذ طفولته في رحاب كنيسة دير القديس جاورجيوس في سوق الغرب. كان مأخوذًا إلى جمال الأيقونات والجدرانيات، وهو العارف أنها مطلّ السماء على الأرض. هدوءه الرصين معبّر عن هذا اللصوق الإيمانيّ، ومتحرّك بجديّة انكبابه على الدراسة. لا يعني أنه كان غريبًا عن جوّ المراهقة، لكنّ الهشاشة والتفاهة لم تمسّه. أذكره وهو من جيلي تمامًا على مقاعد المدرسة الصيفيّة في بلدتنا سوق الغرب أنّه كان محدّثًا لبقًا مليئًا بالاحترام لكل من حوله وجاذبًا لاحترامهم له. عادة هذا الجيل كان مهووسًا باللعب "والهوشلة"، بفرح الصيف حتى الثمالة، وبعد عيد رفع الصليب كان الهمّ يدبّ في قلبه وركبه بسبب قرب نهاية الصيف وفتح أبواب المدارس والتحوّل من القرية التي ملأناها صراخًا وسرحنا وتنزهنا بين صنوبراتها وبيوتها التراثيّة القديمة وانجذبنا لأعياد الصيف فيها إلى مدينة مليئة بغابات الباطون يسكنها الليل باكرًا وتصفر في أجوائها الرياح وترهقنا الفروض المدرسيّة وتحجب عنّا الحريّة، مثلما كان يزعجنا أحيانًا كثيرة عقاب الأساتذة في المدرسة يرافقه عقاب الأهل في البيت بحال غرقنا في التقصير والكسل. إلاّ بول الذي درس في مدرسة سيدة الجمهور، فقد كان منذ نشأته مختلفًا في التكوين والطموح. فمنذ ذلك الوقت وقد امتاز بالجديّة الفائقة. وحين كنّا نسأله ما هو طموحك وإلى أين تريد الوصول فكان جوابه الحاسم أريد أن أكون طبيبًا.
لم يكن حلم بول هيوليًّا بل عملانيًّا. هذا رجل يعرف ماذا يريد، وقد جسّده في مسيرة حياته بمنهجيّة صارمة. أدرك بسرور كبير تعب والده الطيب الياس فتواصل معه بوفاء منقطع النظير من ضمن مبدأ التماسك الأسريّ، وقد بدأنا في أزمنتنا نفقد حلاوته وجذوره، وقد قطعت بعض الأجيال حبل السرّة مع جذورها وتاريخها. بهذا الوفاء والإخلاص، أكمل بول سعيه الدراسيّ والجامعيّ بتفوّق، ليقفز من تفوّق إلى آخر، من نجاح إلى آخر، فتراه يطير على أجنحة من نور، في فضاء العلم الواسع من دون الانفصال عن إيمانه المستقيم. ليس سهلاً بهذا المعنى، أن يطيب لمستشفى فرنسيّ عظيم كجورج بومبيدو له موقعه المؤّثر والراسخ في عالم الاستشفاء الكونيّ بإنجازاته الكبرى، دعوة الدكتور بول الياس قشّوع ليستلم رئاسة قسم جراحة القلب المفتوح فيه مكان البروفسور المبدع والعظيم آلان كاربنتييه Alain Carpentier الذي كان له الفضل وبمعاونة زميله جيلز دريفوس بإجراء أوّل عمليّة زرع قلب اصطناعيّ في أوروبا سنة 2005، وفي سنة 2008 أجرى عمليّة إصلاح طارئة ونوعيّة وتعدّ الأولى في مسألة جراحة القلب المفتوح للصمّام التاجيّ للصحافيّ والمذيع الأميركيّ شارلي روز، حيث فوجئ بأوجاع هائلة في قلبه وصدره فيما هو متجه نحو دمشق لإجراء حديث مع الرئيس الدكتور بشار الأسد.
التحدي الأعظم في حياة بول الطبيّة، ليس في أن يخلف كاربنتييه في موقعه بل أن يتفوّق عليه في تطلعاته وفي اكتشافات علميّة وطبيّة منتظرة، تفيد الإنسانية وتطيل عمر الإنسان على الأرض. أجرؤ هنا بأن اقول بأنّ التحدّي إلهي لكون رسالة الله للبشريّة أن يحيا الإنسان في عافيته وينمو بصحته. كانت مسيرة يسوع المسيح في الجليل وكفرناحوم والناصرة وصولاً إلى تخوم صور وصيدا مواجهة المرض وشفاء المرضى وإحياء الموتى، وآخرهم ألعازر الصدّيق. البروفسور فيليب سالم صرّح مرّة بأن نجاح الطبيب في شفاء المريض ينطلق بدءًا من اتكاله على الله. السيد له المجد أعطى البشريّة كلّ شفاء في الأخير لمّا نزف حبًّا وسفك الحب دمًا على الخشبة وفوق تلّة أورشليم. العقل الطبيّ المتجدّد والمتوثّب الراني نحو خلاص الإنسان غير منفصل عن الحركة الإلهية المتواصلة في التاريخ البشريّ والمحركة له. طبيب مسلم في مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت فوجئ بزميل له مسيحيّ رآه ساجدًا أمام أيقونة المخلّص في عيادته قبل أوّل عمليّة قلب مفتوح في النهار. الاعتماد على الله يجعل يده تمسك بيد الطبيب لنجاة المريض.
على هذا أبارك لهذا الحبيب بنجاحه الباهر وموقعه المنتظر في أيلول المقبل. جميل أن نستبق الحدث ليصير الحدث فيما بعد بداءة العمل. الدكتور بول قشّوع مفخرة طبيّة للبناننا المعذّب والحبيب، وسيكون في موقعه جزءًا من الرسالة اللبنانيّة إلى الخارج، الممدودة نحو الكون كلّه، فهي تتخطّى فساد الداخل وعفنه، وتسمو على كل نتانة في النفس البشريّة الأمّارة بالسوء، وتصبو ليكون الداخل صورة عن إبداع الرسل في مواقعهم. سيشيرون إلى لبنانيّة بول في فرنسا كما أشاروا إلى لبنانيّة أمين معلوف الروائيّ العظيم. سيكون لبنان بك يا صديقي عظيمًا على رجاء أن ينعكس نجاحك ونجاح كل لبنانيّ مبدع إلى فرح وسلام وشفاء لهذا البلد من آلامه ومعافاته من جلجلته. وصولك إلى هذا الموقع بارقة نور في أزمنة ظلام.
الدكتور بول قشّوع، أنت مفخرة للبنان، لأهلك، لأصدقائك، لبلدتك سوق الغرب العظيمة بدورها برجال كبار اقتحموا التاريخ بشعاعهم وهم خالدون فيه، ولأهلها الذين فرحوا كثيرًا بهذا الخبر وهم يصرخون من ملء قلوبهم وأفواههم مستحق، مستحق، مستحق.

ملاجظة: الطبيب قشوع  متخرج من كليّة الطبّ في جامعة القدّيس يوسف في بيروت العام  1996.